تأكيدات السيسي "الواثقة" جاءت رغم أن الأرقام المتعلقة بتراجع إيرادات القناة طوال الشهور الماضية وفقدانها 299 مليون دولار من إيراداتها السنوية خلال العام الماضي 2015 صادرة عن جهات رسمية مسؤولة بالدولة، مثل هيئة قناة السويس ووزارتي المالية والتخطيط والبنك المركزي المصري ومركز معلومات مجلس الوزراء.
تصريحات السيسي، أمس، ليست الأولى من نوعها، ففي 17 أغسطس/ آب 2015، أي بعد إطلاق مشروع التفريعة الجديدة بنحو أسبوع واحد، خرج بتصريح لافت للجميع قال فيه إن مصر استردّت كلفة حفر (القناة الجديدة) التي قدّرها بنحو 20 مليار جنيه في أسبوع واحد فقط، وحسب قوله "إذا كان على الـ20 مليار اللي إحنا دفعناهم، إحنا جبناهم تاني".
هناك أرقام أخرى وردت على لسان السيسي وتتعلق بالمليون وحدة سكنية واستصلاح 1.5 مليون فدان وغيرها، وهي أرقام تتناقض مع بيانات جهات رسمية منها وزارتا الزراعة والإسكان، وأحدث الأمثلة على ذلك الحديث عن زراعة آلاف الأفدنة بالقمح في واحة الفرافرة رغم أن الرقم الحقيقي لما تمت زراعته بالقمح هو ألفي فدان فقط من بين 10 آلاف فدان تم استصلاحها.
إذاً عوّدنا السيسي من حين لآخر على تكذيب الأرقام حتى ولو كانت رسمية، أي صادرة عن وزارات ومؤسسات وهيئات تابعة للدولة، وهذا أمر غريب وغير متعارف عليه دولياً ومحلياً، فالمفروض أن المسؤول الأول في الدولة هو مصدر الأرقام الرسمية، أو أن الأرقام الرسمية تصب كلها في مؤسسة الرئاسة قبل إعلانها.
أفهم أن يكذّب مسؤول كبير في الدولة الأرقام المنشورة في وسائل الإعلام المحلية أو العالمية، خاصة إذا ما كانت غير دقيقة ومصدرها شائعات ولا تستند لحقائق على الأرض، أو أن يكذب المسؤول أرقام مؤسسات مالية واقتصادية دولية، خاصة إذا ما كان سيترتب على نشرها حدوث بلبلة في الاقتصاد وقطاعاته المختلفة، مثل أسواق السلع والصرف والاحتياطي الأجنبي ومخزون البلاد من السلع الغذائية.
وأتفهّم كذلك أن يرفض بعض كبار المسؤولين بالدولة الكشف عن أرقام ذات طبيعة حساسة، مثل حجم الديون المتعثرة والمشكوك في تحصيلها لدى القطاع المصرفي، أو القيمة العادلة للعملة المحلية مقابل الدولار، رغم أننا في عصر باتت كل المعلومات متاحة حتى ولو تعلقت بمخزون الدولة من السلع الاستراتيجية كالقمح والأغذية، بل إننا في عصر باتت كل الدول مطالبة بالكشف عن أرقام كانت تتعامل معها في السابق على أنها أسرار تتعلق بالأمن القومي، وذلك في حال إذا ما أرادت الانفتاح على العالم الخارجي وجذب استثمارات أجنبية.
كل ذلك أتفهمه، ولكن ما لا أتفهمه هو أن تخرج أرقام عن السيسي لتتعارض كلية مع أرقام رسمية تم الإعلان عنها في فترات سابقة.
نحن هنا أمام خيارين، إما تصديق أرقام السيسي، والتي طالبنا أكثر من مرة وفي خطابات عدة بتصديقها بحكم أنه مسؤول عن إدارة شؤون الدولة ويعرف أكثر من الجميع، أو أن نصدق الأرقام الرسمية، وهي الأرقام التي يتم على أساسها اتخاذ قرارات مهمة ومستقبلية مثل تحديد أولويات الإنفاق العام للدولة وعجز الموازنة العامة واتجاهات التضخم وأسعار الفائدة والصرف، أو أن نضرب عرض الحائط بكلا الرقمين (أرقام السيسي والأرقام الرسمية)، ونصدق الواقع الصعب الذي نعيشه.
على أي مسؤول في الدولة احترام الأرقام الرسمية، لأن لها قدسيتها الشديدة، ولا يجوز لأي مسؤول التلاعب بهذه الأرقام وبشكل مطلق حتى ولو كانت صادقة، لأن التلاعب بها يعني أن المواطن سيفقد الثقة في أية بيانات حكومية، كما أن المؤسسات الخارجية والمستثمرين الأجانب سيتعاملون بريبة وشك مع هذه الأرقام، وبالطبع لا يمكن جذب استثمارات خارجية في ظل وجود ريبة وشك من المستثمر في الأرقام الرسمية.