ومع وصول السيسي إلى الحكم، قبل عامين، أوعز إلى وزارة الداخلية بشن عمليات اعتقالات عشوائية وممنهجة ضد رافضي الانقلاب، وتلفيق اتهامات جاهزة مثل قلب نظام الحكم، والإضرار بالأمن القومي، والانضمام لجماعة إرهابية، وتنفيذ عمليات ضد الجيش والشرطة، وغيرها. ومع فشل الرجل في تحقيق أي إنجاز يُذكر، خلال العامين الماضيين، ومحاولة إحكام سيطرته على مفاصل الدولة، ووأد أي حراك ثوري ومعارضة حقيقية، تفكّك معسكر 30 يونيو، تدريجياً، حتى انفض الجميع من حول السيسي.
وبدأ الرئيس المصري باستهداف الشباب، بشكل واضح وصريح، خصوصاً الأعضاء في حركات ثورية وشبابية، فضلاً عن التوسع في استهداف الصحافيين. وأمام انتهاكات وزارة الداخلية التي أسهمت، بشكل كبير، في تراجع شعبية السيسي وسط مؤيديه، لم يتمكن الرجل من التحرك، ما يعني، وفقاً لمراقبين، إمّا أنه غير قادر على مواجهة جهاز الشرطة، أو أنه راضٍ عما يحدث.
وتعددت مظاهر انتهاكات حقوق الإنسان والحريات، والاختفاء القسري، والتصفيات الجسدية، والاعتقالات العشوائية، وعدم الرعاية الطبية للمعتقلين، والتعذيب، وتردي أوضاع أماكن الاحتجاز والسجون، وتلفيق التهم للنشطاء، والتضييق على المجتمع المدني، والمنع من السفر. ولقي العشرات من القيادات الإسلامية والشباب مصرعهم داخل السجون المصرية بسبب الإهمال الطبي ونقص الرعاية، وتعنُّت إدارة السجون في نقلهم إلى مستشفيات خاصة خارج السجن.
كما تمنع إدارة السجون السماح بدخول الأدوية والطعام للتغلب على الأغذية الرديئة بالداخل، وترفض إدخال الملابس الملائمة لفصل الشتاء، لعدم قدرة المعتقلين على التعايش مع البرودة الشديدة. وفضلاً عن مأساة السجون التي تشهدها مصر منذ الانقلاب على مرسي، تحاول وزارة الداخلية استعادة هيبتها من خلال اتخاذ "محاربة الإرهاب" ذريعة للبطش والانتقام من الشعب الذي ثار عليهم، بحسب مراقبين. وعادت عمليات التعذيب بقوة في أقسام الشرطة وأماكن الاحتجاز، التي تُفضي إلى الموت. وتكرر هذا الأمر مرات عدة خلال حكم السيسي، ومعظمهم من المتهمين في قضايا سياسية.
كما شهدت مصر، خلال الأشهر القليلة الماضية، حوادث قتل مواطنين على يد أمناء شرطة بإطلاق الرصاص عليهم، في منطقة الدرب الأحمر، ومدينة الرحاب، وقتل مواطن على يد ضابط في مشاجرة، فضلاً عن اعتداءات أفراد الشرطة على المواطنين والأطقم الطبية في المستشفيات. ويقول أحد المتهمين في قضية جنحة إنه قضى ليلة واحدة في قسم شرطة كرداسة، قبل إخلاء سبيله من النيابة، ولم يتمكن حتى من الوقوف داخل الحبس. ويضيف المتهم ويدعى أبو أحمد، لـ"العربي الجديد"، أن السجن الذي وُضع فيه بقسم الشرطة تبلغ مساحته بين 2 و3 أمتار، ويقبع فيه ما يزيد عن 60 شخصاً.
ويشير إلى أن "التنفس كان صعباً في ظل عدم وجود منافذ تهوية كافية، ولا أحد يمكنه الجلوس أو حتى النوم، والكل داخل الحبس يقف على قدم واحدة كي يتّسع المكان للجميع. ويلفت أبو أحمد إلى أنه يعاني من حساسية في الصدر، وكاد يموت لولا أنه أبلغ حارس الزنزانة، أنه لا يتمكن من التنفس، ثم التشديد على أنه ليس مسجوناً سياسياً، "وبعد إعطائه مبلغاً من المال تركني أجلس بجوار الزنزانة في الخارج"، على حدّ قوله.
وبشكل لافت، توسّعت وزارة الداخلية في عمليات الإخفاء القسري، إذ تم اختطاف مطلوبين لديها وترحيلهم إلى أحد أماكن الاحتجاز، في ظل إنكار كامل لتواجدهم لديها. ولم تتحرك وزارة الداخلية في هذا الملف، إلا بعد تقديم المجلس القومي لحقوق الإنسان شكاوى ذوي المختفين، ما دفع الوزارة إلى الرد بتحديد مصير 118 مختفياً، قالت إنهم على ذمة قضايا، من أصل 266 حالة.
وفي سياق متصل، يمارس النظام الحالي نوعاً من التضييق على حقوق الإنسان والحريات، عموماً، ويمنع معارضيه من السفر خارج البلاد. ومنعت السلطات المصرية، في أكثر من واقعة، سفر نشطاء سياسيين وحقوقيين للمشاركة في مؤتمرات ولقاءات خارج مصر من دون وجود قرار من النائب العام في هذا الشأن، وإنما من جهات أمنية. كما تمارس الدولة، بكل أجهزتها، ضغوط على منظمات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان، التي تفضح الانتهاكات، وتتواصل مع منظمات دولية لكشف عمليات التجاوزات، إذ تُحقق الدولة في قضية تعرف إعلامياً بـ"التمويل الأجنبي" للمنظمات.
ولجأت بعض المنظمات الدولية إلى إغلاق فروعها في القاهرة خلال عهد السيسي، في ظل التضييقات الكبيرة والحصار المفروض عليها من قبل أجهزة الأمن ومؤسسات الدولة. وفي معركة الحريات، نشبت أزمة كبيرة، قبل نحو شهر تقريباً، حين اقتحمت قوة من وزارة الداخلية نقابة الصحافيين التي تعتبر قلعة الحريات والمُدافع الأول عنها. وتصاعدت الأزمة، بشكل كبير، من عدم تدخل مؤسسة الرئاسة لاحتواء الموقف، وتصحيح خطأ وزير الداخلية، اللواء مجدي عبدالغفار، لكن مع مرور الوقت تبيّن أن السيسي لم يكن ليرفض هذا التصرف، بل صدر عنه. وفي سابقة هي الأولى من نوعها، أُحيل نقيب الصحافيين واثنان من أعضاء مجلسه إلى المحاكمة في تهمتَي إيواء اثنين من المطلوبين على ذمة قضية، ونشر أخبار كاذبة، ولا تزال الأزمة قائمة.
وبعد سلسلة الانتهاكات والتجاوزات في مجال حقوق الإنسان والحريات، وتحديداً عقب قتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني في القاهرة، في فبراير/شباط الماضي، بدأت الدول الغربية تشنّ حملات انتقادات موسّعة للأوضاع في مصر. وتصاعدت لهجة الانتقادات الغربية لمصر، وسط مطالبات بتحسين أوضاع حقوق الإنسان. وفي منتصف شهر إبريل/نيسان الماضي، أبرز تقرير لجنة الحريات في الخارجية الأميركية، مشاكل عدة في مصر اعتبرها الأكثر أهمية في حقوق الإنسان، ومنها ظروف السجن السيئة، والاستخدام المفرط للقوة من قبل قوات الأمن، وقصور في الإجراءات القانونية، وقمع الحريات المدنية، وعمليات القتل غير القانونية والتعذيب.
وأشار التقرير إلى أنّ من ضمن هذه المشاكل، "الاستخدام المفرط للاحتجاز، والاحتجاز السابق للمحاكمة، واستخدام المحاكم العسكرية لمحاكمة المدنيين، والتجارب التي تنطوي على مئات المتهمين ولم تقدم السلطات دليلاً على أساس فردي". كما كان موقف البرلمان الأوروبي مماثلاً، إذ طالب الدول الأعضاء بمراجعة شاملة لعلاقاتها بمصر، بعد مقتل ريجيني، وتصاعد انتهاكات حقوق الإنسان. لكن السيسي كان خارج السياق تماماً، وحاول المراوغة وعدم الرد على الانتقادات لأوضاع حقوق الإنسان، وقال "مصر بلد يحترم نفسه ويتعامل بقيم ومبادئ لم تعد موجودة، وحريص على أن يكون مستقلا في قراره من دون الإساءة لأحد".
وأضاف السيسي، في أحد خطاباته، أن "مصر تحاول شرح موقفها بشكل واضح، نحتاج إلى أن نطوّر مفهوم حقوق الإنسان. فالحياة الكريمة والمأكل والمسكن والصحة والعمل من حقوق الإنسان، فالحقوق لا تقتصر على التظاهرات فقط". وفي أكثر من مناسبة، يؤكد السيسي أن المفاهيم الغربية لحقوق الإنسان لا تناسب مصر، نظراً "لوجود الإرهاب، وتحدث تجاوزات خلال مواجهة هذا الخطر".
في هذا السياق، يقول الناشط الحقوقي، كريم عبد الراضي، إنّ "أول عامين من حكم السيسي أسوأ ما شهدته مصر في مجال حقوق الإنسان والحريات". ويضيف عبد الراضي لـ"العربي الجديد" أن النظام الحالي فاق كل الحدود في مسألة التعدي على حقوق الإنسان، والتوسع في عمليات الإخفاء القسري، التي بلغت المئات بخلاف المعلن بشكل رسمي. ويشير إلى أن الدولة المصرية لا تعترف بالأساس بمصطلح "التعذيب"، ودائماً ما تنفي الأمر مع أن كل الوقائع والأحداث والاعترافات تتم بعد تعذيب واسع قد يفضي للموت في أماكن الاحتجاز.
ويلفت هذا الناشط إلى أن الانتهاكات في مجال حقوق الإنسان اتّسعت بشكل كبير، والمنظمات المحلية والإقليمية والدولية لم تتحدث عن تردي أوضاع حقوق الإنسان مثل ما تكلمت عنها في فترة حكم السيسي. ويؤكد أن النظام الحالي أطلق يد وزارة الداخلية في عمليات التنكيل، وعدم محاسبة المخطئ منهم، بما يسمح بتكرار وقائع الاعتداء وقتل المواطنين في الشوارع.
من جانبه، يقول أحد شباب حركة شباب 6 إبريل، إن "الوضع في عهد السيسي مأساوي لأقصى درجة، إذ إنّ هناك استهدافاً متعمداً للشباب، خصوصاً مَن يتمتع بحسّ ثوري. ويضيف الناشط الشاب لـ"العربي الجديد"، أن مصر تشهد ردة فعل على مبادئ ثورة يناير، وحتى الأهداف التي خرج من أجلها المصريون في 30 يونيو/حزيران 2013.
ويوضح أن السيسي تخطى الرئيس المخلوع حسني مبارك في القمع والانتهاكات، حتى وصل الأمر إلى قتل المواطنين في الشوارع، وتلفيق التهم للنشطاء السياسيين، وشنّ حملات اعتقالات عشوائية، متسائلاً عن "كيفية إطلاق جهاز الشرطة والسير في الشوارع وشنّ عمليات اعتقالات عشوائية لأي شخص لمجرد الشك فيه وتفتيشه، وسحل الشباب من على المقاهي من دون تهم، لكن لبث حالة من الخوف في نفوس الجميع". ويشدد على أن الاعتقالات والتضييقات أثّرت بشكل سلبي على أي حراك، "لكن في النهاية التأثير الإيجابي يكمن في كسر حاجز الخوف، وهو أمر يحتاج لفترة"، محذراً من ثورة عنيفة ضد النظام الحالي.
من جهته، يقول الخبير السياسي محمد عز لـ"العربي الجديد" إن "وزارة الداخلية ليست إلّا مجرد أداة في يد النظام الحالي برئاسة السيسي، وبالتالي هو المسؤول المباشر عن كل الانتهاكات والتجاوزات". ويضيف عز أن "السيسي "لو أراد إيقاف الداخلية عن الانتهاكات لفعل، لأنه رئيس السلطة التنفيذية، لكنه لا يريد لأنها تخدم مصالحه في استهداف معارضيه"، على حدّ تعبيره. ويلفت إلى أن السيسي لا يريد معارضة حقيقية وإعلاماً يتمتع بالحرية في تناوله للأحداث، وكل ما تقوم به الداخلية هو تنفيذ لرؤيته وإرادته.