24 يوليو 2024
السودان في 27 عاماً
مرّت في 30 يونيو/ حزيران الذكرى 27 على الانقلاب العسكري. وكأي انقلاب مرّ في السودان، فقد جاء على خلفية أزمة سياسية وصراع بين القوى الاجتماعية والسياسية بشأن خريطة الطريق نحو المستقبل، لكنه اختلف عن سابقيه، انقلابيْ إبراهيم عبود وجعفر النميري، في أنه معلن، وجرى تنفيذه علناً وبعلم الأجهزة، وخصوصاً رئيس الوزراء آنذاك، الصادق المهدي. وتحت بصره وأمام ناظريه. كنت، صحافياً، على علم بتفاصيل الانقلاب، ومن مصادر في الاستخبارات العسكرية، وعلمت أن كل المعلومات صبت بين يدي رئيس الوزراء، موثقة وبالأسماء، بل أبلغته بها جهات حزبية نافذة، استقبل تخوفاتها بكل برودة أعصاب، بل زاد على ما لديهم من معلومات بملفاته الموثوقة. وهذه بات يلمح إليها اليوم القيادي السابق في حزب الأمة، مبارك الفاضل المهدي. وفي المعرفة بالانقلاب، تستوي الأحزاب السياسية مجتمعةً، يميناً ويساراً. وفي تجاهل تفعيل ميثاق الدفاع عن الديمقراطية لمقاومة كل انقلاب، يقع اللوم على الأحزاب السياسية والحركة النقابية السودانية.
ولو شئنا على خلفية كل ما جرى وضع قائمة بالملامين على هذا الوضع الذي يعيشه السودان اليوم، لجاء في المقدمة الصادق المهدي، ولا أحد غيره، فهو مصب المعلومات الاستخباراتية. وكما ذكر لي شخصية مرموقة في الاستخبارات السودانية وقتها، حينما سألته عن المخرج من الانقلاب المقبل والمعلن، قال بالحرف "الأمر بيد الصادق المهدي، فلديه كل المعلومات، ولو خرج وتحدث علناً عن علمه بالترتيب لانقلاب عسكري، لأوقف حركة المجموعات الانقلابية، ومنحنا الفرصة في استكمال معلوماتنا الدقيقة، والقبض على الانقلابيين، وإفشال الانقلاب". تفسيري ذلك الموقف من الصادق المهدي، وإغماض عينه على انقلاب معلن، أنه اختار نظرة ضيقة. وفي المعطيات السياسية، كانت له مصلحة شخصية في نجاح الانقلاب. وهذا أهون عليه كثيراً من تجرّع الهوان الشخصي، وفراق عشقه الأول، الحكومة ورئاستها، فرؤيته كانت استباقية تلتقي مع جوهر فكرة الانقلاب نفسه، نظراً إلى ما كان سيحدث، بعد أربعة أيام من الانقلاب، من توقيع اتفاق السلام بين زعيم الحزب الاتحادي، محمد عثمان الميرغني، وزعيم حركة تحرير السودان، جون قرنق، والذي بلاشك كان كسباً سياسياً كبيراً جداً لغريمه الميرغني، ما يزيح المهدي عن السلطة إلى فترةٍ ستطول حتماً. وعلى ذلك الاتفاق، كان المرجح بروز تغيراتٍ وتحالفاتٍ سياسية جديدة قد تحرمه (أي الصادق) من الحكم فترةً قد يطول مداها كثيراً. هذا الشعور القوي لديه هو ما جعله الوحيد في حزب الأمة الذي يقوده من نافح وصارع، حتى لا يتم الاتفاق مقابل إجماع واسع، يشمل كل الطيف السياسي السوداني على اختلافه. وطالت منافحته الاتفاق، حتى وجد نفسه محشوراً في زاويةٍ ضيقة، ليس فيها سوى الجبهة الإسلامية بقيادة حسن الترابي. وللحقيقة، وبقدر أقل من الصادق، يقع اللوم على قيادات الأحزاب السياسية الكبرى التي اهتمت بالثرثرة السياسية، وغيبت عقول الشعب عن خطورة ما يجري.
انقلاب مخادع، وبهذه الصفة بالذات، جرّ على البلاد وبالاً كبيراً، فقد استهدف الانقلابيون، ومن
اليوم الأول، القوات النظامية في السودان. واستمراراً للمخادعة، كان لابد من إزاحة الحركة النقابية القوية في البلاد من على الطريق. وكنتيجةٍ وبعد تمرير الخدعة الكبرى، قزّمت القوات النظامية "بإبادة" جماعية للرتب من الضباط في الجيش والشرطة والسجون. ونتيجة للخدعة أيضا قضي على الخدمة المدينة، وسرح مئات الآلاف من موظفي القطاع العام والدولة، بغرضٍ ساذج، وهو القضاء على الحركة النقابية. بمعنى آخر، فإن الخديعة والكذبة التي مرّ من تحتها الإنقلاب انتهت الى تدمير دولة السودان بكاملها، فلا الرئيس اليوم هو الرئيس، ولا الجيش عاد موجوداً بالمعنى الذي كان، فالمليشيات وقوات الدفاع الشعبي وقوة الردع السريع، وغيرها بمختلف المسميات، أصبحت البديل عن الجيش القوي. وباتت مليشيات الدعم السريع الاسم المستحدث لقوات الجنجويد في إقليم دارفور، وهي الموثوقة والمعتمدة، والتي تمرح في أراضي السودان، من أقصاه إلى أقصاه.
أما الدراما الأكبر التي ولدتها كذبة الانقلاب الإخواني الأول أن الدولة صارت تدار من وراء ستار، وإلى يومنا هذا، وهذا ما جلب مآسٍ كثيرة على السودان، وخصوصاً على صعيد اتخاذ القرار، بل حرمت الكذبة مخرج الانقلاب الدكتور حسن الترابي من تولي قيادة المسرح السياسي بنفسه، لأسباب متعلقة بالكذبة والخديعة، فأصبح الترابي في حيرةٍ، فلا هو يستطيع قيادة الدولة على الطريقة الإيرانية الخمينية التي كانت هي المثال "الثوري الملهم"، للحركة الإسلامية في السودان، ولا هو قادر على السيطرة على فوضى المسرح الداخلي الذي تحوّل فيه بلغة المسرح من مخرج إلى مجرد كومبارس. ولما جاء الوقت لتنفيذ الفكرة التالية بإعلان نظام الدولة الحضارية، كانت سياسة الإرهاب المتعمد وممارسته الواسعة في بيوت الأشباح، وقتل للأبرياء، وإزاحة كل الفضائل التي وسمت الشخصية السودانية قد ضربت ستاراً سميكاً من الشكوك حول جدارة النظام الجديد.
ولّدت الكذبة الكبرى اليوم جيشاً جراراً من المنافقين والكذابين، وأحيل شعب بكامله رهينة لأفكار مضللة، بات من غرسها يضجر منها اليوم. وأصدق تعبير عن الواقع، وفي ذكرى 27 عاما على الكذبة والخديعة، ما قاله البروفيسور حسن مكي، وهو أحد أهم قيادات الحركة الإسلامية، في حديث لصحيفة سودانية. وبحسب الصحيفة، أقر بارتفاع أسهم الدولة العلمانية لدى من يراهنون على الحل الخارجي، وتساءل: هل السودان دولة دينية، حتى تصبح دولة علمانية؟. وقال "المشكلة أننا شبه دولة، وليس في أنها علمانية أم إسلامية. نحن شبه دولة تتآكل وتضعف، والمطلوب إعادة الدولة السودانية، علمانيةً كانت أو إسلامية.
ولو شئنا على خلفية كل ما جرى وضع قائمة بالملامين على هذا الوضع الذي يعيشه السودان اليوم، لجاء في المقدمة الصادق المهدي، ولا أحد غيره، فهو مصب المعلومات الاستخباراتية. وكما ذكر لي شخصية مرموقة في الاستخبارات السودانية وقتها، حينما سألته عن المخرج من الانقلاب المقبل والمعلن، قال بالحرف "الأمر بيد الصادق المهدي، فلديه كل المعلومات، ولو خرج وتحدث علناً عن علمه بالترتيب لانقلاب عسكري، لأوقف حركة المجموعات الانقلابية، ومنحنا الفرصة في استكمال معلوماتنا الدقيقة، والقبض على الانقلابيين، وإفشال الانقلاب". تفسيري ذلك الموقف من الصادق المهدي، وإغماض عينه على انقلاب معلن، أنه اختار نظرة ضيقة. وفي المعطيات السياسية، كانت له مصلحة شخصية في نجاح الانقلاب. وهذا أهون عليه كثيراً من تجرّع الهوان الشخصي، وفراق عشقه الأول، الحكومة ورئاستها، فرؤيته كانت استباقية تلتقي مع جوهر فكرة الانقلاب نفسه، نظراً إلى ما كان سيحدث، بعد أربعة أيام من الانقلاب، من توقيع اتفاق السلام بين زعيم الحزب الاتحادي، محمد عثمان الميرغني، وزعيم حركة تحرير السودان، جون قرنق، والذي بلاشك كان كسباً سياسياً كبيراً جداً لغريمه الميرغني، ما يزيح المهدي عن السلطة إلى فترةٍ ستطول حتماً. وعلى ذلك الاتفاق، كان المرجح بروز تغيراتٍ وتحالفاتٍ سياسية جديدة قد تحرمه (أي الصادق) من الحكم فترةً قد يطول مداها كثيراً. هذا الشعور القوي لديه هو ما جعله الوحيد في حزب الأمة الذي يقوده من نافح وصارع، حتى لا يتم الاتفاق مقابل إجماع واسع، يشمل كل الطيف السياسي السوداني على اختلافه. وطالت منافحته الاتفاق، حتى وجد نفسه محشوراً في زاويةٍ ضيقة، ليس فيها سوى الجبهة الإسلامية بقيادة حسن الترابي. وللحقيقة، وبقدر أقل من الصادق، يقع اللوم على قيادات الأحزاب السياسية الكبرى التي اهتمت بالثرثرة السياسية، وغيبت عقول الشعب عن خطورة ما يجري.
انقلاب مخادع، وبهذه الصفة بالذات، جرّ على البلاد وبالاً كبيراً، فقد استهدف الانقلابيون، ومن
أما الدراما الأكبر التي ولدتها كذبة الانقلاب الإخواني الأول أن الدولة صارت تدار من وراء ستار، وإلى يومنا هذا، وهذا ما جلب مآسٍ كثيرة على السودان، وخصوصاً على صعيد اتخاذ القرار، بل حرمت الكذبة مخرج الانقلاب الدكتور حسن الترابي من تولي قيادة المسرح السياسي بنفسه، لأسباب متعلقة بالكذبة والخديعة، فأصبح الترابي في حيرةٍ، فلا هو يستطيع قيادة الدولة على الطريقة الإيرانية الخمينية التي كانت هي المثال "الثوري الملهم"، للحركة الإسلامية في السودان، ولا هو قادر على السيطرة على فوضى المسرح الداخلي الذي تحوّل فيه بلغة المسرح من مخرج إلى مجرد كومبارس. ولما جاء الوقت لتنفيذ الفكرة التالية بإعلان نظام الدولة الحضارية، كانت سياسة الإرهاب المتعمد وممارسته الواسعة في بيوت الأشباح، وقتل للأبرياء، وإزاحة كل الفضائل التي وسمت الشخصية السودانية قد ضربت ستاراً سميكاً من الشكوك حول جدارة النظام الجديد.
ولّدت الكذبة الكبرى اليوم جيشاً جراراً من المنافقين والكذابين، وأحيل شعب بكامله رهينة لأفكار مضللة، بات من غرسها يضجر منها اليوم. وأصدق تعبير عن الواقع، وفي ذكرى 27 عاما على الكذبة والخديعة، ما قاله البروفيسور حسن مكي، وهو أحد أهم قيادات الحركة الإسلامية، في حديث لصحيفة سودانية. وبحسب الصحيفة، أقر بارتفاع أسهم الدولة العلمانية لدى من يراهنون على الحل الخارجي، وتساءل: هل السودان دولة دينية، حتى تصبح دولة علمانية؟. وقال "المشكلة أننا شبه دولة، وليس في أنها علمانية أم إسلامية. نحن شبه دولة تتآكل وتضعف، والمطلوب إعادة الدولة السودانية، علمانيةً كانت أو إسلامية.