السعودية في عهد عبد الله لبنانياً: عِشرية التراجع المستمرّ

24 يناير 2015
طال الرصاص السفارة السعودية في أيار 2008 (فرانس برس)
+ الخط -
تولى الملك عبد الله بن عبد العزيز مقاليد الحكم في بلاده، بشكلٍ رسمي في أغسطس/آب 2005، لكنه كان الحاكم الفعلي قبل ذلك، بسبب الحالة الصحيّة للملك فهد. وفي عهده تراجع حجم النفوذ السعودي في لبنان بشكلٍ كبير.
قبل الحديث عن أبرز المحطات اللبنانيّة في عهد الملك السعودي، لا بد من الإشارة إلى أنّ لبنان شكّل دوماً أحد أبرز البلدان التي اهتمت بها السياسة السعوديّة الخارجيّة، واعتبر دوماً جزءاً من دائرة النفوذ السعودي تاريخياً. وقد تُرجم هذا الأمر بشكلٍ مباشر عبر اتفاق الطائف، الذي أنهى الحرب الأهليّة اللبنانيّة عام 1989. فهذا الاتفاق، الذي يُعد دستور لبنان، جرى توقيعه في مدينة الطائف السعوديّة، وأمنت له المملكة الغطاء الدولي بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية وسورية. وقد لعب رئيس الحكومة اللبنانيّة الأسبق رفيق الحريري دوراً بارزاً في الوصول إلى هذا الاتفاق.
في تلك المرحلة، كان الحريري مبعوث الملك السعودي إلى لبنان. فهو المواطن اللبناني ــ السعودي، الذي عرفه اللبنانيّون كمبعوث خلال سنوات الحرب الأهليّة التي امتدت بين عامي 1975 و1990. وشغل لاحقاً منصب رئيس الحكومة اللبنانية والرجل السعودي الأبرز في لبنان. واستطاع بدعم السعودية والاهتمام المباشر من الملك عبد الله، إقفال جميع البيوت السياسية السنية، وسيطر على مختلف مؤسسات الطائفة (وأبرزها دار الفتوى، جمعية المقاصد).

لكن في ظلّ حكم الملك عبدالله (حين كان الأخير هو الحاكم الفعلي للمملكة كوليّ للعهد) جرى اغتيال رفيق الحريري، لتخسر السعودية رجلها الأول في لبنان. كان يُفترض أن المملكة تؤمن حماية دوليّة للحريري، لكن الواضح، أنها لم تستطع تأمين أمنه الشخصي. وشكّل اغتيال الحريري بداية الانتكاسة السعوديّة في لبنان.

قبل اغتيال الحريري، لم تستطع المملكة منع تمديد ولاية الرئيس إميل لحود، لثلاث سنوات، رغم رفضها لهذا التمديد. لا بل، اضطر الحريري للموافقة على التمديد في مجلس النواب رغم معارضته له. وكان هذا أحد أبرز المؤشرات لتراجع التأثير السعودي في لبنان. حصل الانسحاب السوري في أبريل/نيسان 2005. ومن ثم دخل لبنان في حوار داخلي دعا له الرئيس نبيه بري، وشارك فيه الرئيس سعد الحريري، نجل رفيق الحريري، بغطاء سعودي. شنت إسرائيل حرب يوليو/تموز فوصف وزير الخارجية السعودية سعود الفيصل عمليّة حزب الله التي اتخذت منها تل أبيب ذريعة، بـ "المغامرات غير المسؤولة". ورغم ذلك، شاركت المملكة في عمليّة إعادة إعمار لبنان، خصوصاً بعد أن تفاعل الرأي العام العربي بشكل إيجابي مع حزب الله خلال هذه الحرب.

لكن هذه الحرب شكّلت مؤشراً لعدم قدرة فريق تيار المستقبل، وهو حليف السعوديّة الأول في لبنان، على تأدية دورٍ مشابه لما قام به رفيق الحريري خلال حرب أبريل/نيسان 1996، عندما انتهت الحرب بـ "تفاهم نيسان". إذ اتهم حزب الله، رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك، بنقل وجهة النظر الغربية، بدل اللبنانية.

وبعد الحرب، في مايو/أيار 2007، سجّل فريق 14 آذار، أبرز إنجاز له منذ اغتيال الحريري، وهو قرار مجلس الأمن رقم 1757 القاضي بإنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، بعد طلب رئاسة الحكومة ذلك. بعد صدور هذا القرار، زار أحد السياسيين اللبنانيين البارزين الملك عبد الله لشكره ووضعه في صورة ما تحقق في ما يخص المحكمة الدولية. يقول هذا السياسي، أن عبد الله نظر إلى سقف الغرفة، وقال: "رحم الله رفيق الحريري" في إشارة إلى أن الملك لا يُعطي أهمية لهذه المحكمة.

وبعد أشهر على صدور هذا القرار، دعا فريق الثامن من آذار إلى تظاهرة في وسط بيروت، انتهت باعتصام شلّ الحركة في قلب العاصمة اللبنانيّة وحاصر رئيس الحكومة فؤاد السنيورة؛ كما انسحب الوزراء الشيعة من الحكومة. استمر الوضع على حاله، إلى أن حسم حزب الله الوضع ميدانياً في مايو/أيار 2008 بالسيطرة على أحياء العاصمة، وحاصر السرايا الحكومية واحتلّ مقار تيار المستقبل. بدا وكأن السعوديّة تخسر ما تبقى لها في لبنان. فغادر سفيرها عبد العزيز الخوجة إلى السعودية عبر البحر من الضبية شمالي بيروت، ليغيب بعدها عن لبنان لأشهر. وقد طالت بعض رشقات الرصاص مبنى السفارة السعودية حينها، كما حُرق أحد مباني تلفزيون المستقبل وهو ملاصق لمبنى السفارة. وعلى وقع الرصاص ومحاصرة منزل سعد الحريري، سافر المسؤولون اللبنانيون إلى قطر، ليوقعوا اتفاق الدوحة، الذي اعتبر هزيمة لفريق 14 آذار وتيار المستقبل.

حاولت المملكة تعويض هذه الخسارة عبر الانتخابات البرلمانية، فموّلت معركة فريق 14 آذار بمئات ملايين الدولارات الأميركية، في مقابل مبالغ مشابهة دفعتها إيران لتمويل معركة فريق 8 آذار. جاءت النتيجة لصالح 14 آذار بفارق بسيط، لكن هذا لم يسمح لهذا الفريق بالحكم منفرداً، أو بفرض شروطه نتيجة قوّة السلاح نفسها التي سبقت اتفاق الدوحة.

كُلف سعد الحريري بعد الانتخابات تشكيل الحكومة للمرة الأولى بعد اغتيال والده. وبعد ثلاثة أشهر من تكليفه اعتذر عن تشكيل الحكومة لفشله في التوافق مع فريق 8 آذار. ثم أُعيد تكليفه مرة جديدة، ليُشكل حكومته في تشرين الثاني/نوفمبر 2009، بعد خمسة أشهر على إجراء الانتخابات.

عاشت حكومة الحريري في ظلّ التوافق السعودي ــ السوري، أو ما اصطلح على تسميته لبنانياً بالسين ــ السين. وقد بدأ شهر العسل هذا خلال قمة الكويت في يناير/كانون الثاني 2010، عندما أجرى أمير الكويت مصالحة بين الملك السعودي والرئيس السوري. ثم بلغ ذروته عندما زار عبد الله والأسد بيروت معاً في طائرة واحدة في يوليو/تموز 2010، للتخفيف من حدة التوتر الناتج عن المحكمة الدوليّة. وسبق هذه الزيارة الثنائية، ذهاب سعد الحريري إلى دمشق بعد تشكيل حكومته، وتكررت زيارة الحريري أربع مرات، وأعلن في آخر زيارة له في ديسمبر/كانون الأول 2010 أنه تسرع باتهام دمشق باغتيال والده.

وبعد نحو شهر على هذا التصريح، استقال 11 وزيراً من حكومة الحريري، في الوقت الذي كان يزور فيه الأخير الرئيس الأميركي باراك أوباما، بحيث دخل رئيساً، وخرج من اللقاء رئيساً سابقاً في رسالة معنوية حادة من إيران إلى السعودية. بعد استقالة الحريري، كُلّف نجيب ميقاتي بتشكيل الحكومة اللبنانية، بدون رضا السعوديّة التي راهنت على سقوط نظام الأسد ليكون مدخلاً لتسوية الأمور في المنطقة. وخرج سعد الحريري من لبنان، ليُصبح منفياً بشكلٍ غير رسمي.

على مدى سنتين، بقيت السعودية خارج إطار اللعبة السياسيّة اللبنانيّة، تخلّلها اغتيال رجل السعودية الأمني الأبرز في لبنان، اللواء وسام الحسن (رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي) إلى أن كُلّف تمام سلام تشكيل الحكومة في أبريل/نيسان 2013، ليُشكّل حكومته بعد 11 شهراً، في فبراير/شباط 2014، وتعود السعودية إلى الساحة اللبنانية من قناة "مكافحة الإرهاب". فأعلنت الرياض مساعدة مالية للجيش اللبناني بقيمة ثلاثة مليارات دولار، وتلاها مساعدة عاجلة للجيش والأجهزة الأمنية بقيمة مليار دولار، تولى سعد الحريري توزيعها.
خلال عشرة أعوام، خسرت السعودية الكثير في لبنان لصالح إيران، إلى أن انكفأت عن الملعب اللبناني لسنتين، لتعود لاحقاً. ربما يكون تعليق أحد الوزراء الحاليين، وهو مقرّب من السعودية جداً، لصديق له من فريق 8 آذار، بعد انتقاد الأخير للسياسة السعودية بالقول: "لو كان هناك سياسة سعودية في لبنان لما كان رأسك فوق رقبتك"؛ معبراً جداً عن الواقع السعودي في لبنان.
المساهمون