السخونة العسكرية في ليبيا وتعطل السياسة

30 مايو 2017

آثار اشتباكات بين "جهاديين" وقوات لحفتر ببنغازي (20/5/2017/فرانس برس)

+ الخط -
تستمر حاليا حالة التناقض السياسي والمسلح لدى الاقتراب من تسوية الأزمة في ليبيا، فعلى الرغم من الإعداد للحوار الوطني، اتسع نطاق المعارك العسكرية، لتظهر في وقت متقارب خمس مناطق ساخنة على مستوى البلاد، كان جديدها تزامن اشتعال المعارك في الجنوب الليبي وطرابلس، ما قد يشكل حلقة جديدة من مسارات الصراع الأهلي في البلاد ، وهو ما يثير الجدل بشأن قدرة الكيانات الليبية على احتواء التداعيات اللاحقة للصراع.

انتشار الصراع السياسي
تشير التحركات العسكرية إلى سعي الجنرال خليفة حفتر إلى الاقتراب من مدينة مصراتة، بعد فشل محاولة الاقتراب من جهة سرت، وباعتبار أن الجنوب يمثل المنطقة الرخوة في السياسة الليبية، فإن استمرار المعارك فترة طويلة سوف يؤدي إلى طرح تحدّيات نشر الصراع، ولعل أهمها التحفيز على الانقسامات الاجتماعية، وتكوين مليشيات مسلحة جديدة لأجل الدفاع الذاتي.
على الوجه المقابل، تثير تصرفات المجلس الرئاسي الجدل بشأن سياساته العسكرية، فعلى الرغم من اندلاع المعارك حول القواعد العسكرية في الجنوب الليبي (تمنهنت وبراك الشاطئ)، فقد اتخذ قراراً بالتحقيق مع وزير دفاع الوفاق، مهدي البرغثي، وآمر "القوة الثالثة"، بسبب العمليات العسكرية في الجنوب الليبي، وقد تضمن قرار "المجلس" (19 مايو/ أيار 2017) وقف العمليات العسكرية، وعدم شن عمليات أخرى، بموافقة فايز السراج، باعتباره القائد الأعلى، على الرغم من اقتراب حلفاء حفتر من المناطق الحيوية لحكومة الوفاق.
وبالنظر إلى تطور المعارك في الجنوب، ونبش القبور في بنغازي، يظل قرار المجلس الرئاسي مثيراً للجدل، ليس فقط بسبب الولاية السياسية على العمليات العسكرية. ولكن من جانب أن القرار يتعلق بوقف المعارك الميدانية من دون توفر ضمانات التهدئة أو حل الصراع، ما يثير القلق لدى المجالس العسكرية للمدن، بما يؤدي إلى تأجيج الصراع المسلح، وإطاحة فرص السلام.

وفي توقيت متقارب، اندلعت اشتباكات في طرابلس (26 مايو/ أيار) بين حكومتي "الإنقاذ" و"الوفاق"، وهي تدور بالأساس حول السيطرة على العاصمة ومرافقها الرسمية. وبعد يومين من المعارك، حدثت انسحاباتٌ مفاجئةٌ إلى خارج المدينة، وهو تغير غير معتاد في إدارة الصراع، حيث خرجت الكتائب المسلحة الآتية من خارج العاصمة، وهي انسحاباتٌ تتلاقى في مضمونها مع الانسحاب (القوة الثالثة) من قاعدة تمنهنت، حيث خرجت من المعارك تحت الضغوط الاجتماعية.
وكما أنه من المحتمل أن تفرض هذه التصرفات قيوداً على تطوير دور المكونات العسكرية في المنطقة الغربية، فإنها قد تكون تعبيراً عن استراتيجيةٍ جديدةٍ لاحتواء تشتت الجماعات المسلحة، ومدخلاً لضبط الصراع واحتوائه في غرب ليبيا، فعلى خلاف الجولات السابقة من المعارك، انتهت الاشتباكات في الجنوب وطرابلس بانسحاب عدد من الكتائب من أمام قواتٍ تابعة لحفتر، وأخرى تتبع حكومة الوفاق، ما يشير إلى تغير أنماط الصراع، حيث لم يستطع طرفٌ حسم الصراع أو الدخول في تسويةٍ سلمية، وهذا ما كان يرجع إلى تفكّك الكيانات السياسية، وتناثر المكونات العسكرية، وقد أوجدت هذه الحالة أنماطاً من التداعي وعدم القدرة على توفير قاعدة صلبة لإعادة بناء المؤسسات.

خرائط جديدة للصراع
تترافق هذه الأحداث مع تسارع في شغل عدد من قيادات النظام السابق مناصب عليا، وهي مسألة أثارت جدلاً كبيراً في الأيام الماضية، وكانت ردود الفعل على تصريحات وزير الخارجية، محمد سيالة، بالاعتراف بخليفة حفتر قائداً عاماً للجيش، واحدةً من مظاهر القلق على موقف حكومة الوفاق تجاه التعامل مع شغل المناصب العليا، وخصوصاً الأمنية والعسكرية، وهو ما اعتبره "المجلس العسكري لثوار الزنتان" ( 30 مارس/ آذار 2017) خطوة نحو تشكيل البنية الأساسية لجهاز الدولة.
ففي موازاة توسيع نطاق عمليات "الكرامة"، تحدث إعادة هيكلة للتركيبة السياسية في مصراتة، فإلى جانب انضمام مجلس عسكري مصراتة للمنطقة الوسطى (21 مايو/ أيار 2017) ومشاركته في معارك الجنوب، فقد طالب بعدم الاعتراف بالمكونات؛ الحزبية والسياسية، مثل تجمع نواب مصراتة والعدالة والبناء، فيما يؤكد على استمرار شرعية المؤتمر الوطني وحكومة الإنقاذ وسحب الاعتراف بحكومة الوفاق، ما يعزز حالة تفكك البنية السياسية والعسكرية.
وعلى مستوى التحالفات الاجتماعية، حدثت تغيراتٌ يمكن أن تؤثر على تركيبة التحالفات السياسية، فمنذ العام 2014، ومع اختيار طبرق مقراً مؤقتاً لمجلس النواب، أعلنت قبيلة العواقير تأييدها عملية الكرامة. ولكن، حدث، في هذه الفترة اهتزاز في التحالف القبلي ـ العسكري، وهو ما يرجع إلى الاختلاف حول اختيار مهدي البرعثي لوزارة الدفاع (الوفاق). وأخيراً اغتيال شيخ القبيلة (19 مايو/ أيار)، شكل هذا المسار خلفية الموقف الأخير لـ "العواقير"، حيث ظهر توجه نحو التخلي عن حفتر، ودعم التوجهات القبلية في المنطقة الشرقية، واعتبار رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، القائد الأعلى للجيش (25 مايو/ أيار 2017) والمحاسبة على تهريب "الدواعش" من بنغازي ودرنة، ما أدى إلى عودة الاغتيالات. وقد تكشف هذا التغير عن اهتزاز مظلة الحماية الاجتماعية لأنشطة حفتر في شرق ليبيا.

ومن المحتمل أن تؤثر معارك الجنوب على العلاقة بين المكونات العسكرية في غرب ليبيا، وخصوصاً من داعمي حكومة "الوفاق"، حيث تتأثر العلاقة بتناقضين: الأول، إعلان فايز السراج قبوله استمرار حفتر قائداً عاماً للجيش، على خلاف توجهات ملتقيات ضباط المنطقة الغربية، كان آخرها ملتقى ضباط الجيش في زوارة ( 14 مايو/ أيار)، حيث صنفت رئاسة الأركان العامة "الكرامة" مجموعة مسلحة خارجة على القانون، أما التناقض الثاني، فهو ما يتعلق بمحاولات "المجلس الرئاسي" وضع ما يمكن اعتبارها قيوداً على تحرّكات حلفائه في مواجهة "الكرامة" في الجنوب الليبي.
ويمكن القول إن ليبيا تشهد عملية مراجعة للتركيبة السياسية والعسكرية على مستوى البلاد عموما، لم تتوقف فقط عند التحقيق مع البرعثي، وإعلان المجلس الرئاسي عن تهدئة في جنوب ليبيا، ولكنها طالت استقالة متهمين بالتمثيل بالنبش بالقبور والاغتيال من "الجيش"، وهي إجراءات متزامنة مع إعلان حل "أنصار الشريعة" (27 مايو/ أيار)، والانسحاب من طرابلس، وتوجيه مصر ضربات جوية على درنة، وهذا ما يشكل تغيرات جوهرية في المشهد الليبي، يتوقف نضجها واقترابها من الحل السياسي على ظهور كتلة سياسية وعسكرية حرجة، تتمكّن من تكوين مركز ثقل للسياسة في ليبيا.
قد تكون التغيرات المفاجئة في إدارة الصراع متأثرة بضغوط خارجية، لكنها لا تلغي تأثير احتفاظ كل من المكونات المسلحة والعسكرية ببعض من إمكاناتها، وقدرتها على الدخول في موجات صراعية أخرى، فالانسحابات من العاصمة يمكن تفسيرها تحركاتٍ مرحلية. ولذلك، يساهم فتح المجال للمشاركة السياسية، يساهم في امتصاص التوتر لدى الحركات الأيديولوجية ومعالجة الانقسامات الاجتماعية ـ السياسية.
في الوقت الراهن، لا ترسم هذه التحرّكات خطاً واضحاً لمسار الصراع المسلح أو المسار السياسي، لكنها تضع مؤشراً على التوجه نحو هيكلة الصراع، فهذه التحركات لا يمكن اعتبارها حلاً سياسياً، بقدر ما هي إعادة تموضع للدخول في جولةٍ مختلفة من الصراع العسكري والسياسي.

أزمة الحوار الوطني
على أية حال، يثير تجدّد الصراع المسلح التساؤل بشأن مستقبل الحل السياسي، فدخول طرابلس حزام الصراعات الساخنة قد يدفع باتجاه هذا الحل. ولا يمكن الوصول إلى هذه النتيجة مباشرة، لكنها تتوقف على عوامل أخرى، لعل أهمها وضوح تصورات إدارة العاصمة وبناء الحكومة والخروج بصيغةٍ مشتركة لمشروع الدستور.
يتمثل الجانب المهم في مسألة الحوار الوطني في أنه على الرغم من الجدل بشأن مدى تمثيل لجنة الحوار الحالية للسعب الليبي، فمنذ بداية العام الحالي، لم يتم الاتفاق على تشكيل لجنة جديدة وظلت مشكلة تكوينها من دون حل واضح. وفي هذا السياق، ظهرت مشكلة أخرى، تتعلق بتنازع المؤسسات الليبية على المشاركة في الحوار، حيث تقدم "المؤتمر الوطني" و"المجلس الأعلى للدولة" و"مجلس النواب" بثلاث قوائم، ما من شأنه إعادة إنتاج النزاع السياسي بين سلطات الدولة، بحيث كشفت الخبرات السابقة عن صعوبة استبعاد أيٍّ من المؤسسات من العملية السياسية، وفي ظل التطورات الأخيرة في الجنوب وطرابلس، يزيد احتمال حفز "الهيئة التأسيسية" لطرح مشروع الدستور للاستفتاء حلاً للخروج من الحلقة المفرغة للحوار الوطني.
وفي ظل الإطار الدستوري القائم، تفيد التطورات الحالية بأن السلطة التشريعية سوف لا تشكل عاملاً مهماً في السياسة الليبية، وقد تقوم بوظائف انتقالية، تقتصر على تمرير الاستفتاء على الدستور. فبينما يستند مجلس الدولة على أساس قانوني، ما يزال عرضةً للتقلبات السياسية، فقد ظهرت مؤشرات أخرى على تراجع الدور السياسي للمؤسسات المنتخبة، فبينما أدى اتفاق الصخيرات لتفريغ المؤتمر الوطني، فقد استمر مجلس النواب في مقره المؤقت (طبرق) منذ تشكيله. هنا، يكشف مؤشر تدهور استقرار المؤسسة التشريعية عن انخفاض القدرة على التكيف مع التداعيات السياسية، وهي تشكل امتداداً لصعف المؤتمر أمام المسلحين خلال عام 2013، ومن ثم، يساهم استمرار هذه الأوضاع في تعزيز القلق وعدم الاستقرار.
غير أن التحدّي الأخر لمعوقات الحوار الوطني يرتبط بتنامي عدد الكيانات العسكرية، وكلها ذات طابع محلي، بما يمثل قيوداً على سياسات بناء الجيش أو توحيده. وقد شهدت هذه الظاهرة تنامياً ملحوظاً في ظل الاتفاق السياسي، ما يمكن اعتباره نتائج عكسية للحوار الوطني، فمن
جهةٍ، لم يقتصر الأمر على ظهور ثلاث حكومات، لكنها امتدت إلى إعادة تشكيل ديناميات عسكرية جديدة، كان منها "البنيان المرصوص" و"سرايا الدفاع عن بنغازي" وأخيراً "فخر ليبيا"، ما يشكل نقطة حرجة أمام استئناف الحوار الوطني.
لعل التحدّي الرئيسي للعملية السياسية في ليبيا يتمثل في أنه على مدى المراحل الانتقالية التي مرّت بها ليبيا، لم يحدث تطور أو انتقال لأي مؤسسة ليبية، على الرغم من دخول الاتفاق السياسي حيز التنفيذ، وهو ما يثير مشكلة العوامل الكامنة وراء تعطل السياسة في ليبيا، وهي مسألةٌ لا تتعلق فقط بطبيعة الإطار الدستوري، أو أنماط الصراعات، بقدر ما ترتبط بتناقضات النخبة السياسة، وعدم قدرتها على ابتكار صيغة مشتركة لبناء الدولة، فيما تهتم بإسناد شرعيتها للتحالفات والفواعل الخارجية. وتشكّل هذه المعضلة العامل الأكثر أهميةً في استمرار الأزمة المفتوحة من دون حل واضح في الأفق، سوى التحضير لمرحلة جديدة من الصراع، فظهور المشكلات الحالية يترافق مع ارتباك المنظور السياسي وتناقضه، وهي حالة تعزّز استمرار الأزمة، ما لم تتوفر إرادة لامتصاص الآثار الجانبية للصراع.
5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .