الزائرة المزعجة الطارئة

13 مايو 2019

(معمر مكي)

+ الخط -
لم تتوقف الفتاة العشرينية السعيدة عن الثرثرة بصوت مرتفع حاد وزاعق، يدق على العصب السابع مباشرة، لأنه كان يشبه صوت مرور لوح طبشور على لوحٍ خشبي في يد معلم مدرسة حكومية حانق. باشرت الفتاة التي تعاني حتما من اضطراب فرط الثرثرة حديثها الفوضوي غير المترابط بلا انقطاع، حتى أنها لشدة حماستها لم تفكر بالتقاط أنفاسها، وقد تدفق السكر الوغد إلى خلاياها بشكلٍ سخي، كونها، بحسب ما أفادت، تناولت إفطاراً شهياً ألحقته بحبتي قطايف محشوة بالجبن والجوز والقرفة، بعد صيام يوم طويل، أكدت أنها لم تعان فيه سوى قليل من العطش، فخلدت إلى النوم ثلاث ساعات متواصلة، قبل أن توقظها الماما، طلباً لمساعدتها في إعداد طاولة الإفطار، حيث إن الوالد وبقية الإخوة كانوا حينها مرميين كالقتلى، لا فائدة تُرتجى من يقظتهم. واصلت قصفها المتواصل بلا رحمة، منذ لحظة جلوسها وصديقتها الصامتة عديمة الشخصية في مقهى الحي الصغير الذي يرتاده زبائنٌ كهول من الجنسين، ممن يحملون حواسيب يشغلونها بزهوٍ خفيٍّ، حال وصولهم، ممتنّين للأحفاد الذين ساعدوهم في التخلص من أميتهم التكنولوجية، فالتحقوا مرغمين بركب العصر المنطلق بسرعة خاطفة، غير عابئ بمجاراة قدراتهم البطيئة على استيعاب المتغيرات، وأنشأوا حساباتٍ على مواقع التواصل، أباحت لهم التعبير عن أفكارهم التي لا تهم أحدا. 
تعدّى هؤلاء أزمة منتصف العمر بمشقة وعناء، وقد خلفتهم ضجرين مكتئبين حزانى، يكنون حقدا دفينا على الشيخوخة، ومظاهرها البائسة من هشاشة عظام وسمنةٍ مفرطة وترهل البشرة وغزو التجاعيد، وتدلي العنق مثل ديك حبش قبيح، متذمّرين من لعنة الصحو المبكر، ومن الحميات الغذائية التي تهدف إلى خفض نسبة الكولسترول في الدم، وقد بات جميعهم على علمٍ ودرايةٍ بأن قميصها الأصفر الذي ابتاعته صباحا من "مكة مول" يليق بلون عينيها، على الرغم من أن والدتها أبدت تحفظها على اللون، لكنها، بسبب الصيام والانهماك في إعداد وجبة الفطور لم تناقشها في الأمر. لم يكن لديها رغبة، وهي تتابع حلقة معادة من الجزء الثالث من مسلسل "الهيبة"، وتلفّ، في الوقت ذاته، ورق العنب، وتحشو حبات الكوسا بالأرز واللحم المفروم، وهو الطبق المفضل للسيد الوالد الذي أبدى امتعاضا شديدا من التعديل الوزاري الذي أجري أخيرا على حكومة عمر الرزاز، واعتبره تعديلا مخيبا للأمل، خصوصا أنه عاد بالرجل الأقل شعبية في الأردن، وزير الداخلية السابق الذي تقلد المنصب ذاته مليون مرة.
وأشارت البنت إلى أن والدها المتقاعد حديثا من مؤسسة حكومية لم يصمت، بل عبر عن رأيه بمنتهى الشجاعة والوضوح، من خلال مجموعة "بوستات" نارية، حصلت على مجموعة كبيرة من اللايكات التي تشيد بوطنيته وحرصه على الصالح العام. وحين سألته: هل ستذهب الليلة إلى الدوار الرابع يا والدي.. رد متثاقلا: "صعب يابا، مفاصلي بتوجعني، ما بقدر على الوقفة الطويلة، بعدين بدي أروح على ديوان العشيرة، أبارك لمعالي ابن العم، لأنه ضل بالمنصب، مع أنه الحساد طلّعوا إشاعة إنه طاير، وهيو رح يضل قاعد على قلوبهم.. الله يقويه". ظل دور الصديقة المرافقة محدودا جدا، لا يتعدى تعليقا مقتضبا أو همهمة أو إيماءة موافقة.
تبادل "الختيارية" نظرات سخط واحتجاج على سلوك هذه الزائرة المزعجة الطارئة التي أفقدت المكان الوقور المتزن مهابته. لم تنتبه الثرثارة الصغيرة إلى كمية القلق والإزعاج الذي سببته لهم. قالت لصديقتها الهادئة أكثر مما ينبغي: هذا المكان لا يروقني، يشبه دار العجزة، وهو مكتظٌ بهؤلاء المسنين المتطفلين الفضوليين الذين لا يكفون عن استراق السمع. أشعر بالاختناق من طاقتهم السلبية، ونظراتهم الحاقدة الحسودة، دعينا نغادر إلى مكانٍ أكثر ألقا وحيوية.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.