31 أكتوبر 2024
الديمقراطية التي لا يريدونها في تونس
تعيد الاحتجاجات الشعبية، التي تعرفها تونس، إلى الواجهة الصعوبات الكبيرة التي تواجه التحول الديمقراطي في هذا البلد العربي. وهي صعوباتٌ لا تعكس فقط السياقات الداخلية المركبة والمعقدة لهذا التحول، بقدر ما تعكس، أيضا، الأدوار التي تلعبها القوى الإقليمية والدولية في توجيه هذا التحول، وتأطيره على ضوء لعبة المصالح والنفوذ في المنطقة.
منذ انتصار ثورة الياسمين، وإطاحتها بنظام زين العابدين بن علي، مطلع يناير/ كانون الثاني 2011، تصدّرت قضايا التشغيل والتنمية وتحسين الأوضاع الاجتماعية والمعيشية مطالبَ الشعب التونسي بمختلف مكوناته، وبالأخص في المناطق والمحافظات التي عانت طويلا من التهميش الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. وعلى الرغم من وعي الحكومات المتعاقبة بمشروعية هذه المطالب وأهميتها في رفد المسارات السياسية والمؤسساتية للتحول نحو الديمقراطية، إلا أن ضعف موارد الاقتصاد المحلي، وانشغال النخب التونسية بتدبير انقساماتها، والمآلات الدراماتيكية للربيع العربي، جعل هذه الحكومات تركّز على الجانب السياسي، وتغفل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية.
هناك عوامل كثيرة مكّنت تونس من الانخراط في عملية التحول هاته، أهمها وجود طبقة وسطى على قدر كبير من التجانس السوسيولوجي والثقافي، ومجتمع مدني متطوّر يتقدمه الاتحاد التونسي للشغل، بكل ثقله التاريخي والاجتماعي، ونجاح النخب التونسية، بمختلف مكوناتها، في إدارة خلافاتها وتحقيق الحد الأدنى من التوافق الوطني. لكن، في الوقت نفسه، كانت هناك عوامل أخرى أسهمت في عدم فتح آفاق أمام هذا التحوّل، والدفع به نحو الأمام، منها إخفاق هذه الحكومات في الاستجابة لمطالب المحتجين في الحدّ من البطالة والتهميش، ومكافحة الفساد، وإقرار سياسة تنموية حقيقية، تقلص الفوارق بين المحافظات والجهات، فضلا عن ضعف الاقتصاد التونسي، وارتفاع المديونية، وتردّد الاستثمار المحلي في القيام بمشاريع منتجة. يضاف إلى ذلك أن مسار العدالة الانتقالية في تونس ما زال غير قادر على الالتحام بالحركية العامة للتحول الديمقراطي، نظرا للإشكالات التي تطرحها قضايا الذاكرة وجبر الضّرر، والتخوف من انهيار هذا المسار في أي لحظة، على اعتبار أن القاعدة الاجتماعية والاقتصادية التي كان ينهض عليها نظام بن علي لا تزال فاعلة، بشكل أو بآخر، في السياسة والإدارة والاقتصاد، ما يفرض على الجميع قدرا لا يستهان به من البراغماتية في التعاطي مع هذا التحول.
وعلى أهمية العوامل الداخلية، ودورها في تشكيل الحالة التونسية، لا يمكن إغفال العامليْن، الإقليمي والدولي، في الحيلولة دون ذهاب تونس بعيدا في ترسيخ أسس ديمقراطيتها الفتية. فالاضطرابُ والفوضى اللذان تعرفهما المنطقة، وتنامي خطر الجهادية الدولية في جنوب الصحراء، ووجود آلاف التونسيين ضمن تنظيماتها، ذلك كله حوّل تونس إلى إحدى بؤر تجاذب السياسات والمقاربات الأمنية التي تنهجها القوى الكبرى، بشأن مكافحة العنف والإرهاب والتطرف.
من الواضح، كذلك، أن هناك جوارا عربيا معاديا لما يحدث في تونس، فلا يزال ساسةٌ ومسؤولون عربٌ كثيرون يعتبرون هذا البلد ''أس كل البلاء'' الذي لحق بالمنطقة منذ 2011، فلولا ثورتُهُ المفاجئة لما حدث كل ما حدث، ولظل النظام العربي غارقا في الفساد والاستبداد إلى إشعار آخر.
ليس من مصلحة نظام عبد الفتاح السيسي في مصر الذي يقود الثورة المضادّة في المنطقة، نجاح الديمقراطية التونسية، والشيء نفسه بالنسبة للنظام الجزائري الذي لا ينظر بعين الرضا لما يحدث على الجانب الآخر من حدوده، وإنْ لم يعلن ذلك صراحة، كما أن دعم الغرب قوات خليفة حفتر في ليبيا عاملٌ آخر يسهم بنصيبه في احتمال انتكاس هذه الديمقراطية وإجهاضها في أي لحظة.
دوليا، لم تحظ الحالة التونسية بدعم القوى الكبرى، فالاتحاد الأوروبي لم يستطع أن يطوّر رؤية أكثر إيجابية وفاعلية إزاء ما يحدث في تونس، فعلى الرغم من المساعدات المالية والتقنية التي يقدمها، إلا أنها تظل محكومةً بسقف ما تعرف بـ ''سياسة الجوار الأوروبية'' التي تنهض على اتفاقيات شراكة مع الدول التي تقع جنوب المتوسط، بمعنى أن التحول الديمقراطي الصعب الذي تعرفه تونس لم يصنع لها وضعا تفضيليا داخل هذه السياسة التي لا تبدو معنيةً، بشكل كبير، بإشاعة الديمقراطية، ونشرها في محيطها المتوسطي.
بالنسبة للولايات المتحدة، وعلى الرغم من الأهمية السياسية والأمنية التي تحظى بها تونس في الأجندة الأميركية، ووجود حزمة مساعدات اقتصادية وعسكرية وقروض مختلفة تقدمها واشنطن سنويا لتونس، فإن ذلك يبدو ضمن الثوابت التي تقوم عليها السياسة الخارجية
الأميركية في المنطقة العربية، عبر سعيها الدائم إلى التأثير على المسارات السياسية والاقتصادية والأمنية، وتوجيهها بما يخدم مصالحها الاستراتيجية.
هذا من دون أن ننسى، بطبيعة الحال، انخراط تونس، منذ عام 2011، في مشاورات مختلفة مع المؤسسات المالية الدولية، لإعادة جدولة مديونيتها، والحصول على قروض جديدة، في مقابل التزامها بتنفيذ الإصلاحات المالية والهيكلية المطلوبة التي ستكون لها بالتأكيد كلفتها الاجتماعية الباهظة، علما بأننا نعرف جيدا الدور الذي تلعبه هذه المؤسسات في مثل المراحل الدقيقة من تاريخ الشعوب، حيث تستغل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المزرية لتمرير مخططاتها وسياساتها الاستعمارية، تحت وهم النمو الاقتصادي الذي سيحسّن هذه الأوضاع ويأتي بالرفاه الاجتماعي.
نعرف جيدا أن مصالح الغرب المتشعبة في المنطقة تمنع بلدانه ومؤسساته المختلفة من مساعدة تونس على إيجاد الخلطة المناسبة التي تتواشج فيها المسارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لتفضي، في النهاية، إلى تحوّل ديمقراطي حقيقي بأقل الخسائر. لكن الوضعَ مختلفٌ بالنسبة للعرب، فمن مصلحتهم نجاح التجربة التونسية، ففي نجاحها محاصرةٌ للاستبداد المتجذّر في المنطقة، وحفاظٌ على بصيص الأمل بإمكانية حدوث تغيير تاريخي يقطع مع ''الاستثناء العربي''، ويمهد لاستيعاب قيم الديمقراطية وثقافتها. وفي إجهاضها إجهازٌ على هذا البصيص، وإغلاقٌ للقوس الذي فتحته ثورات الربيع العربي قبل أكثر من ست سنوات.
هناك عوامل كثيرة مكّنت تونس من الانخراط في عملية التحول هاته، أهمها وجود طبقة وسطى على قدر كبير من التجانس السوسيولوجي والثقافي، ومجتمع مدني متطوّر يتقدمه الاتحاد التونسي للشغل، بكل ثقله التاريخي والاجتماعي، ونجاح النخب التونسية، بمختلف مكوناتها، في إدارة خلافاتها وتحقيق الحد الأدنى من التوافق الوطني. لكن، في الوقت نفسه، كانت هناك عوامل أخرى أسهمت في عدم فتح آفاق أمام هذا التحوّل، والدفع به نحو الأمام، منها إخفاق هذه الحكومات في الاستجابة لمطالب المحتجين في الحدّ من البطالة والتهميش، ومكافحة الفساد، وإقرار سياسة تنموية حقيقية، تقلص الفوارق بين المحافظات والجهات، فضلا عن ضعف الاقتصاد التونسي، وارتفاع المديونية، وتردّد الاستثمار المحلي في القيام بمشاريع منتجة. يضاف إلى ذلك أن مسار العدالة الانتقالية في تونس ما زال غير قادر على الالتحام بالحركية العامة للتحول الديمقراطي، نظرا للإشكالات التي تطرحها قضايا الذاكرة وجبر الضّرر، والتخوف من انهيار هذا المسار في أي لحظة، على اعتبار أن القاعدة الاجتماعية والاقتصادية التي كان ينهض عليها نظام بن علي لا تزال فاعلة، بشكل أو بآخر، في السياسة والإدارة والاقتصاد، ما يفرض على الجميع قدرا لا يستهان به من البراغماتية في التعاطي مع هذا التحول.
وعلى أهمية العوامل الداخلية، ودورها في تشكيل الحالة التونسية، لا يمكن إغفال العامليْن، الإقليمي والدولي، في الحيلولة دون ذهاب تونس بعيدا في ترسيخ أسس ديمقراطيتها الفتية. فالاضطرابُ والفوضى اللذان تعرفهما المنطقة، وتنامي خطر الجهادية الدولية في جنوب الصحراء، ووجود آلاف التونسيين ضمن تنظيماتها، ذلك كله حوّل تونس إلى إحدى بؤر تجاذب السياسات والمقاربات الأمنية التي تنهجها القوى الكبرى، بشأن مكافحة العنف والإرهاب والتطرف.
من الواضح، كذلك، أن هناك جوارا عربيا معاديا لما يحدث في تونس، فلا يزال ساسةٌ ومسؤولون عربٌ كثيرون يعتبرون هذا البلد ''أس كل البلاء'' الذي لحق بالمنطقة منذ 2011، فلولا ثورتُهُ المفاجئة لما حدث كل ما حدث، ولظل النظام العربي غارقا في الفساد والاستبداد إلى إشعار آخر.
ليس من مصلحة نظام عبد الفتاح السيسي في مصر الذي يقود الثورة المضادّة في المنطقة، نجاح الديمقراطية التونسية، والشيء نفسه بالنسبة للنظام الجزائري الذي لا ينظر بعين الرضا لما يحدث على الجانب الآخر من حدوده، وإنْ لم يعلن ذلك صراحة، كما أن دعم الغرب قوات خليفة حفتر في ليبيا عاملٌ آخر يسهم بنصيبه في احتمال انتكاس هذه الديمقراطية وإجهاضها في أي لحظة.
دوليا، لم تحظ الحالة التونسية بدعم القوى الكبرى، فالاتحاد الأوروبي لم يستطع أن يطوّر رؤية أكثر إيجابية وفاعلية إزاء ما يحدث في تونس، فعلى الرغم من المساعدات المالية والتقنية التي يقدمها، إلا أنها تظل محكومةً بسقف ما تعرف بـ ''سياسة الجوار الأوروبية'' التي تنهض على اتفاقيات شراكة مع الدول التي تقع جنوب المتوسط، بمعنى أن التحول الديمقراطي الصعب الذي تعرفه تونس لم يصنع لها وضعا تفضيليا داخل هذه السياسة التي لا تبدو معنيةً، بشكل كبير، بإشاعة الديمقراطية، ونشرها في محيطها المتوسطي.
بالنسبة للولايات المتحدة، وعلى الرغم من الأهمية السياسية والأمنية التي تحظى بها تونس في الأجندة الأميركية، ووجود حزمة مساعدات اقتصادية وعسكرية وقروض مختلفة تقدمها واشنطن سنويا لتونس، فإن ذلك يبدو ضمن الثوابت التي تقوم عليها السياسة الخارجية
هذا من دون أن ننسى، بطبيعة الحال، انخراط تونس، منذ عام 2011، في مشاورات مختلفة مع المؤسسات المالية الدولية، لإعادة جدولة مديونيتها، والحصول على قروض جديدة، في مقابل التزامها بتنفيذ الإصلاحات المالية والهيكلية المطلوبة التي ستكون لها بالتأكيد كلفتها الاجتماعية الباهظة، علما بأننا نعرف جيدا الدور الذي تلعبه هذه المؤسسات في مثل المراحل الدقيقة من تاريخ الشعوب، حيث تستغل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المزرية لتمرير مخططاتها وسياساتها الاستعمارية، تحت وهم النمو الاقتصادي الذي سيحسّن هذه الأوضاع ويأتي بالرفاه الاجتماعي.
نعرف جيدا أن مصالح الغرب المتشعبة في المنطقة تمنع بلدانه ومؤسساته المختلفة من مساعدة تونس على إيجاد الخلطة المناسبة التي تتواشج فيها المسارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لتفضي، في النهاية، إلى تحوّل ديمقراطي حقيقي بأقل الخسائر. لكن الوضعَ مختلفٌ بالنسبة للعرب، فمن مصلحتهم نجاح التجربة التونسية، ففي نجاحها محاصرةٌ للاستبداد المتجذّر في المنطقة، وحفاظٌ على بصيص الأمل بإمكانية حدوث تغيير تاريخي يقطع مع ''الاستثناء العربي''، ويمهد لاستيعاب قيم الديمقراطية وثقافتها. وفي إجهاضها إجهازٌ على هذا البصيص، وإغلاقٌ للقوس الذي فتحته ثورات الربيع العربي قبل أكثر من ست سنوات.