ما قبل 7 أكتوبر وما بعدها
لم يكن السابع من أكتوبر (2023) مُجرَّد جولةٍ في الصراع مع دولة الاحتلال، بقدر ما كان محطَّةً مفصلية فيه، تكاد لا توازيها في ذلك إلّا النكبة المعلومة (1948). خلط ''طوفان الأقصى'' الأوراقَ، وأربك الأجندات الإقليمية والدولية التي كان أصحابها يستعدّون لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، بتمكين دولة الاحتلال من الهيمنة على المنطقة، وأسقط بديهياتٍ، وأعاد تشكيل وعي الأفراد والشعوب تجاه القضية الفلسطينية. وإذا كان من الصعب حصر ما خلّفه ''طوفان الأقصى'' من تداعيات، على اعتبار أنّ الحرب لم تنته بعد، إلّا أنّ ذلك لا يمنع من الوقوف على بعض خلاصات في هذا الصدد.
أولاً، كشفت حرب غزّة الطبيعة الاستعمارية لدولة الاحتلال، وهي التي نجحت عقوداً في رسم صورتها دولةً ديمقراطيةً متشبّعةً بقيم الحرّية والحداثة، محاطةً بدول معادية تريد القضاء عليها. اكتشفت شعوبُ الغرب متأخّرة أنّها كانت ضحية تواطؤ حكوماتها ونخبها التي لم تحرّك ساكناً في مواجهة سياسة التطهير العرقي، التي قادتها دولة الاحتلال في غزّة، من دون اكتراث بأبسط المبادئ والقيم الإنسانية والأخلاقية المتعارف عليها. وبذلك كرّس الكيان الغاصب حقيقتَه امتداداً طبيعياً للإرث الغربي المُخجِل في الاستعمار والاستيطان والتطهير العرقي ونهبِ ثروات السكّان الأصليين ومقدراتهم ومحو هُويّاتهم، في أميركا وأفريقيا وآسيا وأستراليا.
ثانياً، أعاد "7 أكتوبر" الصراع إلى جذوره التاريخية، باعتباره صراعَ وجود لا حدود، بعدما استُنفِدت سرديات التسوية على أساس حلّ الدولتَين المزعوم مقوّماتها، وأحكم اليمينُ الديني الصهيوني المُتطرّف قبضته على مفاصل الدولة العبرية، في أفق الانتقال إلى طور توسّعي أخطر، يمثّل الاستيطانُ وتغييرُ التوازنات الديموغرافية والسيطرةُ على الإقليم عناوينَه العريضة. فقد بات من الواضح أنّ ما يسوّقه الإعلام الغربي، بشأن هذا الحلّ، ليس إلّا تسويفاً وربحاً للوقت بانتظار تصفية القضية الفلسطينية وتعويمها ضمن معادلة إقليمية جديدة، يُفترض أن تقوم من ناحية على تهجير سكّان قطاع غزّة إلى سيناء، وسكّان الضفّة الغربية إلى الأردن، ومن ناحية أخرى على اتفاقات التطبيع بين إسرائيل والدول العربية.
ثالثاً، فضحت حرب غزّة الغرب، وكشفت نفاقه وازدواجية معاييره. وتداعت أركان المعمار الفكري والفلسفي والأخلاقي الذي بناه خلال أكثر من ثلاثة قرون. وتبيّن بالملموس أنّ استدعاء هذا المعمار لا يكون ضرورةً بالنسبة إلى الدول الغربية، حين تتخطَّى الوقائعُ حدودَها، وأنّها مستعدةٌ للتضحية به لأجل مصالحها. كشفت هذه الحرب ألّا مستقبل لإسرائيل من دون الدعم الأميركي والغربي. ولولا العون العسكري والاستخباري والاقتصادي الذي قدّمته الولايات المتّحدة لإسرائيل، ما كان للأخيرة أن تصمد خلال السنة المنصرمة، بعدما فقدت جزءاً غير يسير من قوّة الردع. ولعلّ ما يرعبها، ويُرعب بالتالي الدول الغربية، صمودُ المقاومة رغم ما تكبّدته من خسائر. أكثر من ذلك، تبذل هذه الدول ما في وسعها كي تُفلت إسرائيل من العقاب، بعدما تأكّد بالحُجَّة أنّ ما قامت به من فظائع يرتقي إلى جريمةِ حربِ إبادةٍ مكتملةِ الأركان، هذا من دون السهو عن تدميرها البنية التحتية وضرب مقوّمات الحياة في قطاع غزّة.
رابعاً، وضع ''طوفان الأقصى'' آخر مسمارٍ في نعش النظام الإقليمي العربي، الذي لم يكن يُتوقّع منه حتّى أكثر المتشائمين هذا الخذلان إزاء 42 ألف فلسطيني قضوا تحت آلة القتل الإسرائيلية، فضلاً عن عشرات الآلاف من الجرحى والمفقودين والنازحين. بالطبع، لم يكن مُنتظراً من الدول العربية أن تدخل في خطّ المواجهة العسكرية مع إسرائيل، ما دام ذلك من سابع المستحيلات، لكن على الأقل كان بإمكانها أن تقوم بكثير في واجهتيْ الاقتصاد والدبلوماسية الناعمة، ولا سيّما في ما يتعلّق بإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة المنكوب، والتخفيف، نسبياً، من معاناة الفلسطينيين هناك.
بصرف النظر عما ستؤول إليه الحرب في غزّة ولبنان، فالمؤكّد أنّ ما بعد ''طوفان الأقصى'' ليس كما قبله، هذا على الرغم ممّا ارتكبته دولة الاحتلال من فظائعَ طيلة سنة كاملة، في محاولةٍ يائسةٍ منها لإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل 7 أكتوبر.