يجد من يتجول في أروقة مواقع التواصل الاجتماعي بين الصفحات العربية الكثير من المشاركات والمواضيع المكتوبة، الآلاف المؤلّفة من الصور والفيديوهات، لكن قليلاً ما نرى محتوى ذا قيمة أو مغزى.
كان صديقٌ لي قد شارك أحد الفيديوهات بعنوان: "الدحيح – سبوع الأسبوع"، ولأكن صريحًا، أكره هذه الكلمة "الدحيح". لأنّها عادةً ما تربطني بذكريات الطفولة التي كان الشخص "الدحيح" فيها يُعتبر شخصًا سيئًا ويكون منبوذًا. تعني كلمة "الدحيح" الشخص أو الطالب المُجِد الذي يحبّ العلم والدراسة، ولم أتوقع في حياتي كلها أنّ هذه الكلمة ستتخذ لها معنىً آخر، الشخص الذي يجعلك تحبّ العلوم.
اعتدنا على حصص الفيزياء أو العلوم الطبيعية سواء في المدارس أو الجامعات على ذلك الأستاذ ذي الجبين المقضّب، الشعر الأشعث اللهم إن وجد، والصراخ المرتفع والذي يُفاجئ بنسبة الرسوب العالية التي خيّمت على صفّه في نهاية كلّ فصل. لكن لا يحقّ لنا أن نلوم الطلاب على نفورهم من حصص العلوم أو حتى من المواضيع العلمية وهنا تأتي أهمية "الدحّيح".
يختار أحمد الغندور، المعروف بـ "الدحيح"، مواضيع فيديوهاته بعناية فائقة، يخيّل لمن يقرأ العناوين أنّه سيصادف إحدى الفيديوهات الخفيفة المنتشرة على اليوتيوب أو لربما ظننتَها إحدى فيديوهات الـ Stand-up Comedy. "نبذات من Interstellar"، "الكفتجي"، أو حتى "ما ذنب النباتات؟" هذه عناوين بعض فيديوهاته التي تثير فضولك لتشاهدها وتستكشف محتواها، وحالما تضغط على زر التشغيل ينتابك ذلك السحرٍ الغريب، يقترب الغندور من الكاميرا لجعلك تنتبه وتجمد في مكانك، يتجول في الغرفة كما تتجول الأفكار في ذهنك بعد مشاهدة بضع دقائق فقط من أحد الفيديوهات، ضوءٌ خافت يجعلك تهمل ديكور الغرفة المميز والسجّادة التي تفرش الأرض لتفتح حواسك وتوسّع دماغك لاستقبال تلك المعلومات أو الأفكار.
لا تقتصر تعويذته في لفت الأنظار على الديكور أو العناوين، بعد مشاهدتك لدقيقة أو دقيقتين من إحدى الفيديوهات تتمنّى أن يتوقف بك الزمن لتستمتع بالمحتوى المميز الذي يقدّمه أحمد الغندور. تجد عند مشاهدتك لهذه الدقائق القليلة التي نادرًا ما تتجاوز العشرة من التشوّق والمتعة ما لم تجده في حياتك، يغمرك بسيلٍ من الأفكار بحيث لا تعرف أي الأفكار أعجبك أكثر ليعبر بك بسفينة أسلوبه وشراع فكاهته إلى نهاية الفيديو بكل يسرٍ وسلاسة.
"عباءة أمى وكاميرا أخويا ومايك أبويا.. هذه أدواتى لتصوير حلقات البرنامج وهدفى تحميس المشاهد للعلوم" بحسب الغندور في إحدى لقاءاته الصحافية.
عن البساطة
بدأ أحمد الغندور بهذه الفكرة بعد اشتراكه في مسابقة في القنصلية البريطانية؛ حيث يطرح كل مشترك فكرة علمية ويناقشها خلال 3 دقائق، وبحسب الغندور فإنّ أناساً كثيرين قد أُعجبوا بشرحه وطلبوا منه تسجيل فيديوهاتٍ مماثلة على اليوتيوب.
يتميّز "الدحيح" بأنّه لا يناقش موضوعًا محددًا عبر فيديوهاته، ولا يركّز على فكرة واحدة فقط في الفيديو الواحد، بل يذخر المحتوى بالتنوع المشوّق بعيدًا عن التشعب المضجر المُشتِّت. ويعمد إلى تبسيط العلوم بطريقة مميّزة ليصل من خلال فكاهته إلى عقول جميع فئات المجتمع وخاصةً تلك الفئة التي لا تستهويها العلوم ولا تُشغِل بالها بالأفكار الفلسفية.
منح ذلك كله "الدحيح" شهرة واسعة بين المصريين وامتداداً للأثر خارج حدود مصر عبر البلدان العربية، وكان من القلّة القليلة من "اليوتيوبرز – Youtubers" العرب القادرين على صنع محتوى علمي غني بسيط وممتع.
يظهر ذلك واضحًا من خلال عدد المشتركين بالقناة على اليوتيوب الذي يقارب الـ 300 ألف مشترك أو حتى عدد المتابعين الذي تجاوز النصف مليون شخص على صفحته الخاصة على فيسبوك. ونذكّر أنّه حصل على أكثر من مليون مشاهدة خلال الشهر الماضي. لكن وكما يقال: لكلّ شيءٍ إذا ما تمّ نقصان، يحمل تبسيط العلوم بين طياته على بعض التحديات التي تجعل البعض يعزف عن التبسيط. ولا أدري إذا ما كانت هذه التحديات هي التي تمنع وجود محاولاتٍ مشابهة أم أنّ السبب هو افتقارنا لمثل هذه العقول النظيفة، ولربما لا تكون المشكلة في العقول لأننا فعلاً أمّة العقول، لكن المشكلة في رعاية هذه العقول ودعمها.
واجه أحمد الغندور الكثير منها من خلال فيديوهاته ووجّه له الكثير من الانتقادات من اتهامه بالإلحاد إلى الادعاء بعدم صحة ما يقوله أحيانًا رغم ذكره للمصادر. نشر "الدحيح" فيديو بعنوان "أبيع نفسي" يشرح فيه المكونات التي تؤلّف جسم الإنسان، كما يتعرّض للمقابل المادي لكل عضوٍ من أعضاء الجسم، لينهال عليه المتابعون بسيلٍ من الانتقادات لشرحه الفكرة من مفهومٍ فيزيائيٍ ماديٍ بحت "الانفجار الكبير" دون التطرّق إلى المنظور الديني أبدًا.
كتبت إحدى المتابعات في تعليقٍ على هذا الفيديو: "يا أستاذ أحمد أنت ممتاز.. بس ما تنساش إنك مسلم.. فلا تصدر للناس النظريات الإلحادية في الخلق.. big bang ايه اللي يتكلم بها مسلم؟ واستنكر آخر “انفجار عظيم قلتلي؟؟؟ والذرات ومليون سنة لما تكونت الأرض؟؟ ونحط كلام ربنا على جنب انه خلق السماوات والأرض بستة أيام؟؟".
تجارب أخرى
أُعجبت شخصيًا بأسلوبه، ولفتتني قدرته على شدّ الانتباه وحجز التركيز، وصحيحٌ أنّ تجربته كانت فريدة من نوعها عربياً إلا أنّها ليست فريدة عالميًا. يتشابه أسلوب "الدحيح" كثيراً مع أسلوب قناة اعتدت مشاهدتها على اليوتيوب، Vsauce. يقدّم Michael Stevens مواضيع متنوعة من العلوم، علم النفس، والرياضيات وصولاً إلى الفلسفة والثقافة. فكلاهما يقوم بعرض الأفكار بالطريقة ذاتها ويتنقّل من فكرة لفكرة بنفس الأسلوب المشوّق، ومن يشاهد Vsauce فإنّه يرى مدى التشابه في حركات كل من مايكل وأحمد. قد يرى البعض أنّ هذا الأمر سيئ أو أنّه ينقص من قيمة ما يقدّمه "الدحيح" عبر فيديوهاته، لكن ما الضير في وجود محاولاتٍ شابة مُلهِمة تستمد فكرتها من الآخرين؟ ولنكن منصفين لم أُصادف خلال رحلتي الممتعة في مشاهدة "الدحيح" مادةً أو فكرةً مسروقةً ولم أشاهد مواضيع مشابهة لدى غيره من القنوات الأجنبية.