الخادمة التي تعشق الهاتف

17 ابريل 2019
+ الخط -
وراء كل امرأة تهتم بنظافة منزلها خط هاتف مفصول من الخدمة، وربما كان مفصولا عن شبكة الإنترنت. اعتقدت بهذه المقولة كثيرا، وقد عثرت عليها ضمن منشورات "فيسبوك"، ولكن الظروف التي اضطرتني لاستقدام خادمةٍ بنظام الساعة غيّرت نظرتي لهذه المقولة النظرية، وعزوت الكسل الذي تعيشه النساء هذه الأيام إلى أسباب أخرى، وليس بسبب انشغالهن بهواتفهن، فهذه الخادمة التي استقدمتها لعدة ساعات اكتشفت أنها شعلة من النشاط، وفي الوقت نفسه، لا تتوقف عن الحديث بالهاتف.
هي تمتلك هاتفا من الطراز القديم ومتآكل الحواف، وبالكاد تظهر الأرقام التي تعمل بالضغط عليها، ولكن يبدو أنها تحفظها عن ظهر قلب، غير أن الهاتف لا يفارقها إطلاقا، وتتحدث به طوال الوقت، وهي تنتقل من مكان إلى مكان، فترفع قطعة أثاث وتنحني وتقف وتمسح الغبار، وتنفض الوسائد، بيد واحدة أحيانا، وأحيانا حين تضطر لاستخدام يديها الاثنتين لا تترك الهاتف، بل تلجأ إلى حيلة طريفة أعجبتني، وحاولت تقليدها ففشلت.
كنت أراقبها من بعيد، وأتظاهر بأن الأمر لا يعنيني، فكل ما أريده أن تنظّف المكان، حيث إنني لا أقوى على إزاحة كرسيّ ثقيل، ولا أستطيع أن أنحني على الأرض لمسح البلاط. ولذلك فقد كنت مهتمة بأن تنجز عملها الذي سأقتطع له جزءاً من ميزانية البيت، ولكنني وجدت نفسي أتابعها وأراقبها، وهي تلف وتدور بغير تعب أو كلل، مثل نحلةٍ نشيطة، والهاتف مفتوح الخط مع طرف آخر، وتتحدث وتضحك وتهمس، وتعبس وتستنكر وتشرح للطرف الآخر طريقة إعداد صنف من الطعام.
طريقتها التي حاولت تقليدها وفشلت أنها تضع الهاتف الصغير ما بين أذنها ورباط رأسها وتُحكم وضعه جيدا، بحيث تربط رباط رأسها بقوةٍ حوله فلا يقع، وتبدأ الحديث ومزاولة عملها، تنحني وتمسح البلاط بخرقةٍ مبتلةٍ بكلتا يديها وهي تتحدّث وتلهث، وتدافع عن نفسها من كيد زوجة أخيها التي تشي بها ظلما، وتحاول أن توقع بينها وبين أخيها، وتبدي تذمرها من هذه الزوجة التي "لا تساوي مليما في سوق النساء"، ولكنها سلبت عقل أخيها، وجعلته يمشي خلفها كالأعمى.
حينما غادرت، بعد أن أنهت عملها، حاولت أن أقلدها في طريقة الحديث في الهاتف، خصوصا أنني امرأة تقليدية لا تجاري التكنولوجيا، ولم أستخدم سماعات الهاتف من قبل، ولم أفعل مثلما تفعل مصفّفة الشعر التي أتعامل معها مثلا، وتلك تضع الهاتف في جيب بنطالها الخلفي، وتشبك السماعة في أذنها، وتتحدث طوال الوقت، وهي تتعارك مع خصلات الشعر التي بين يديها.
وما أثار استغرابي أيضا أنها تحرص على شحن هاتفها دائما ببطاقة دفع مسبق صغيرة القيمة، لكنها تستفيد من العروض والمكالمات المجانية التي تقدّم من خلال هذه الحزمة المتواضعة، وتحرص على تجديدها. قالت لي، وهي تؤكد أهمية الهاتف بالنسبة لها: لو كان كل أجري ثمن بطاقة شحن لن أتردّد في شحن هاتفي به، لا يمكن أن أعيش من دون الهاتف، أشعر بأنني سأنقطع عن العالم، ويبدو أن الهاتف هو الذي يجعلني أنسى أنني أعمل خادمة في البيوت، لأنني بنت ناس وتربّيت على العز...
لم أفكّر يوما باستغلال عرض المكالمات المجانية والدقائق الإضافية التي تقدمها شركة الاتصالات، لأنني لا أريد أن أكون مثل كثيرين يهاتفونني بعد غياب طويل، لمجرّد أن لديهم هذه الميزة والمحدودة بفترة محددة. هناك من هاتفتني وعبرت عن اشتياقها لأمي وطبخها، وهي لا تعلم أن أمي توفيت قبل تسع سنين فنكأت جرحي. وهناك من هاتفني صباحا وأيقظني من نومي فقط لكي يستغل مدة العرض التي تنتهي مع ساعات الصباح الأولى، ولكن هذا لم يمنع أنني قد احتجت لإجراء مكالمةٍ عاجلة، ولم أكن أمتلك رصيدا مسبقا، فمدّت الخادمة يدها نحوي بهاتفها؛ لكي أستفيد من رصيدها المجاني، فطالت مكالمتي ساعة على غير عادتي..
دلالات
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.