"أين يحتمي 400 ألف إنسان محاصرين في الغوطة الشرقية للعاصمة السورية دمشق هذه الأيام؟". من يجول في الغوطة اليوم، سيرى أن الحياة قد توقفت في ظل القصف الكثيف. ونادراً ما ترى أحدهم يسير في طرقاتها، باستثناء عناصر الدفاع المدني الذين يتوجهون إلى أماكن الانفجارات. ترك القصف بصماته على معظم أبنيتها. دمّر بعضها كلياً أو جزئياً، وتكسّرت نوافذ وأبواب بفعل قوة الانفجارات، ليتجمّع الناس في أقبية تحت الأرض.
يقول أبو عبد الله، المقيم في الغوطة: "عندما تدخل أحد تلك الأبنية، تبدو وكأنها مهجورة منذ عقود، إذ تتراكم الأتربة والأنقاض عند مدخلها. لكنك تسمع صراخ أطفال مع عائلاتهم أسفل المبنى، أي القبو". ويشير إلى إضاءة ضعيفة تنبعث من نافذة صغيرة قرب سقف عرضها نحو 20 سنتيمتراً وطولها أكثر من متر بقليل. الجدران ما زالت على الهيكل، والأرض مليئة بالرمل، ولا أبواب أو كهرباء أو حتى صرف صحي. تشعر بأن التنفس أمر صعب من جرّاء الرطوبة، في وقت يتسلل البرد إلى عظام الشخص من دون أن يتوفر أي مصدر للدفء.
يضيف أبو عبد الله: "ما إن تخطو خطوات عدة في القبو، إلا وتكتشف أن هذا المكان الصغير فيه عشرات الأشخاص، غالبيتهم من الأطفال والنساء وكبار السن. يضعون على الأرض بطانيات رثة، وتحاول العائلات تقاسم القبو من خلال وضع ستائر، للحفاظ على الحد الأدنى من الخصوصية".
من جهته، يقول عدنان، وهو رجل سبعيني، إنه لجأ إلى هذا القبو مع زوجته وابنته وزوجة ابنه وأطفالها الخمسة. يضيف: "كنا ننتظر أن يأتينا أحد الشباب بطعام للأطفال. منذ يوم أول من أمس، لم يتناول أحد منهم شيئاً، والبعض يبكي من الجوع حتى يغفو. وإذا ما استيقظ أحدهم، يعاود البكاء. منذ سبعة أيام، لم نخرج من باب القبو، ولم نتمكن حتى من الوصول إلى منزلنا الذي يبعد عشرات الأمتار لنجلب بعض البطانيات أو الألبسة".
يضيف عدنان: "لسنا في أمان هنا. غالبية أهل الغوطة يحتمون في أقبية لا تشبه الملاجئ أبداً. عملت في البناء طوال عمري، وأعرف أن غالبية هذه الأقبية بالكاد تستطيع حمايتنا من شظايا القنابل والصواريخ. لكن في حال استهداف البناء بغارة جوية أو قذيفة مدفعية، سيتحوّل القبو إلى قبر جماعي لنا. الأمر يُشعر النساء والأطفال بالأمان ليس أكثر".
وفي قبو آخر شبيه بالأول، تقول أم سعيد، وهي في الثلاثينيات من العمر، يجلس إلى جانبها ثلاثة أطفال، لـ "العربي الجديد": "الوضع سيئ جداً. نرتدي الملابس نفسها منذ أكثر من أسبوع. بالكاد نؤمّن مياه الشرب وهي كلسية. لا دورات مياه، فنخرج من القبو إلى الطابق الأول لقضاء حاجتنا. والأطفال، من جراء خوفهم من القصف إضافة إلى البرد، يتردّدون إلى المراحيض بكثرة. وفي ظل قلة المياه وعدم غسل الأيدي، أخشى انتشار الأمراض كالإسهال والجرب والقمل وغيرها".
في الوقت الحالي، تتمنى أم سعيد أن تتمكن من تغيير ملابسها وأن تغتسل مع أطفالها "لم نعرف النوم منذ أيام. تمر عليّ لحظات أغفو فيها وأنا جالسة. دويّ الانفجارات وصوت الطائرات يحبس أنفاسي ويدفعني إلى ترقب سقوط الصاروخ. هل سيسقط فوقنا أم سيسقط بعيداً عنا؟ عندما أسمع صوت الانفجار، أتنفس وقلبي يعتصر دماً. ألله يعين من سقط فوقهم".
وتلفت أم سعيد إلى أنها تعرفت في القبو على عائلات جديدة، منهم نازحون من خارج الغوطة. الوقت يمر بطيئاً. من خلف الستائر، يدعو البعض بالفرج وانتهاء القصف، أو يتحدثون عن أماكن القصف وأنواع القذائف. تقول: "نتحدّث أحياناً عمّا شهدناه، طوال السنوات الماضية، من ألم وحسرة. لكلّ عائلة قصص كثيرة عن القصف والموت والاعتقال والجوع".
من جهتها، تقول سعاد (25 عاماً)، والمحاصرة في أحد أقبية الغوطة الشرقية، لـ "العربي الجديد": "في منزل عائلتي، كان لي غرفتي الخاصة، وكان ممنوعا على أي أحد دخولها. أرسم اللوحات وأستمع إلى الموسيقى. أحب أن أمضي معظم وقتي في غرفتي، وكنتُ أستقبل صديقاتي المقربات فيها". تتابع: "في القبو، المكان مكتظ بالناس والأطفال. ولأن المكان فارغ من أي أثاث، تصبح همسات الناس وصوت الأطفال وبكاؤهم ضجيجاً لا يطاق". تضيف: "أجلس مع أمي وأشقائي الأربعة، وزوجة شقيقي البكر وطفليه، في مساحة لا تتجاوز أربعة أمتار مربعة، يفصلنا عن عائلة أخرى قطعة من الستائر الرثة، بالكاد تمنعنا من رؤية بعضنا بعضاً، وذلك ليس بسبب الستائر، بل بسبب الإضاءة شبه المنعدمة. في بعض الزوايا في القبو، تنعدم الرؤية تماماً، ما يعطي العائلات قليلاً من الاستقلالية الواهية. لكنّنا نسمع صوت النفس في صدورنا".
تضيف سعاد: "أشعر أن جسدي عبارة عن غبار، إذ أنني لم أغتسل منذ لجأنا إلى القبو، أي قبل أكثر من أسبوع. كما أنني لم أغير ملابسي منذ ذلك الوقت. أشعر أن شعري أصبح كتلة من الطين تحت الحجاب". وتلفت إلى أن الوضع صعب جداً بسبب حاجات النساء الخاصة غير المتوفرة "أخشى أن أصاب بالتهابات وأمراض نسائية من جراء ذلك". وتوضح أنّ "طعم المياه التي نشربها سيئ، وهي من بئر قريب من القبو الذي نقيم به. الطعام قليل جداً، وأحياناً لا يتوفر سوى قليل من الأرز غير الناضج".
وتشير سعاد إلى أنها تحاول تقديم المساعدة للأطفال في القبو، فتروي لهم بعض القصص السعيدة، علّ الخيال يساعدهم على الخروج من واقعهم المرير، وينسيهم الجوع والعطش والبرد، ويشغلهم عن عد القذائف والصواريخ، أو ينسي بعضهم الخوف مع كل انفجار.