الحبيب السائح: خيبات الكولونيل

12 أكتوبر 2014
+ الخط -

أقلامٌ قليلة بادرت إلى قراءة الثورة الجزائرية (1954 ـ 1962) من الداخل، بعيداً عن نبرة التقديس التي تصوّر الثوّار ملائكة، والثورة فعلاً غير قابل للخطأ. نذكر في هذا الإطار رواية "نجمة" لكاتب ياسين (1956)، و"اللاز" للطاهر وطّار (1974)، و"التفكك" لرشيد بوجدرة (1982)، و"توابل المدينة" لحميد عبد القادر (2013).

في ظلّ حاجة الثورة نفسها إلى متون جريئة، تقرأها بوصفها فعلاً إنسانياً مفتوحاً؛ كتب الحبيب السائح (1952) روايته الجديدة "كولونيل الزبربر"، التي تصدر قريباً عن دار الساقي، مفكّكاً ثيمات الثورة والعنف والحب وغربة الإنسان داخل مكانه/ ذاكرته، وما ينتج عنها من شروخ تمسّهما في الصميم.

لم تكن طاوس الحضري، طبيبة الأطفال في الصحراء الجزائرية، تعرف أنها مقبلة على نافذة مختلفة تماماً، تطلّ من خلالها على صورة جديدة لثورة التحرير، التي كبرت وهي تعتقد، مثل كل جيلها، أنها منزّهة عن الأحقاد الأرضية.

حدث ذلك بعد حصولها على مذكّرات تعود إلى جدّها مولاي الحضري، الضابط السابق في جيش التحرير الوطني، والذي سلّم مذكراته لنجله جلال الحضري الذي كان يسمى "كولونيل الزبربر" (الزبربر اسم جبال في شرق الجزائر العاصمة التي كانت مسرحاً لمجاهدي التحرير والجماعات المسلحة معاً)؛ وذلك بعدما قرّر مولاي الانسحاب النهائي من الجندية والسياسة، احتجاجاً على إعدام حكومة الاستقلال أصغر ضابط برتبة عقيد في صفوف جيش التحرير والجيش الوطني الشعبي عام 1964، بتهمة الخيانة والانفصالية.

يوميات مولاي الحضري تحفل بمشاهد غيّبها التاريخ الرسمي للثورة، منها تصفية الجنود والضباط بعضهم بعضاً، والقضاء على نخبة الجامعيين الملتحقين بصفوف الثورة عام 1956، بحجة أنهم مندسّون في صفوفها، لأنهم متخرجون من المعاهد الفرنسية.

وقد عزّز السائح روايته بشهادة طبيب جزائري كان يعالج جنود جيش التحرير سرياً، تضمّنت وقائع من الحرب داخل الجزائر العاصمة، والجرائم التي اقترفتها المنظمة الفرنسية السرية "الأقدام السوداء" احتجاجاً على "منح" الاستقلال للجزائريين، ومنها إقدامها على حرق المكتبة الوطنية.

لا تخلو مذكرات الكولونيل من عطر الطفولة وذكرياتها، من دراسته في مدرسة "أشبال الثورة"، ثم التحاقه بمدرسة "مختلف الأسلحة"، ليصبح أول ضابط يشكّل فصيلاً متخصصاً في محاربة الإرهاب الذي قتل ولده ياسين.

وهو الجرح الذي دفعه إلى الانعزال في حديقة منزله في أعالي العاصمة، مساء يوم الخامس من أيار/ مايو، الذي يصادف الذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر. وقد اعتذر لمكتب رئاسة الجمهورية عن حضوره الحفل التقليدي، لأنه لم يعد مقتنعاً بمثل تلك المراسم.

يقول لنا حبيب السائح إنه كتب الرواية انطلاقاً من بقعة تجمع بين التاريخ والخيال، وأرجع ندرة الروايات التي تناولت الثورة الجزائرية، على أهميتها، إلى جملة من العوامل، منها قلّة المراجع التاريخية، والتحفّظ الذي طبع مذكّرات فاعليها، ما أحاط الثورة بهالة من التقديس لأن "المخيال تكوّن تجاهها بصفتها إنجازاً خارقاً، وبصفة أن المجاهدين معصومين. إن التاريخ الرسمي المكتوب كرّس هذا".

السائح أجاب على سؤال "العربي الجديد" عن خلفية جمعه في هذا العمل بين أوجاع الإنسان الجزائري خلال ثورة التحرير ثم أوجاعه خلال العشرية السوداء في التسعينيات؛ بأنه كان في نصوصه السابقة قد لمحّ بإشاراتٍ عابرة إلى حرب التحرير، خصوصاً ما تعلّق منها بتذكاراته كطفلٍ شاهدٍ على نهايتها.

لكنه في "كولونيل الزبربر" خلق فضاءين اثنين: فضاء حرب التحرير، انطلاقاً من بحثه وقراءاته وبعض تذكاراته، وفضاء المحنة الوطنية التي لم يكن شاهداً عليها فحسب، بل ممسوساً بوقائعها أيضاً.

المساهمون