حرب مصالح
يُعيد العقيد محمد سمراوي، أحد ضبّاط المخابرات المنشقّين في زمن "العشرية السوداء"، أسباب إقصاء الإسلاميين من الحكم إلى "صراع مصالح"، ويؤكد في فصول من كتابه "وقائع سنوات الدم" الصادر في باريس سنة 2003، أنّ الإسلاميين هدّدوا بغلق منافذ التجارة أمام المسؤولين النافذين في السّلطة، والذين كانوا يسعون للتحّكم في سوق البترول والتجارة الخارجية للبلاد، موّضحاً أن عدداً من عمليات التصفية والاختطاف والتفجيرات ومنشورات التهديد بالقتل باسم تطبيق الشريعة كانت مفتعلة، لتبرير توقيف المسار الانتخابي أمام الرأي العام وتأكيد تطرّف التيّار الإسلامي من جهة، وانتزاع السلطة من يد "الجبهة الإسلامية" التي باتت تهدد وجودهم في الحكم من جهة أخرى.
وانصرف سمراوي، في هذا الكتاب، إلى إخراج الصراع بين الإسلاميين والمناوئين لهم من مختلف التيّارات الأخرى، من صناديق الانتخاب إلى العمل المسلّح، باستعمال مبرّرات المصالح المتضاربة بين طرفي النزاع.
"إلّا الإسلاميين"
لا يُنكر سمراوي دور الجناح المسلّح للجبة الإسلامية في تأجيج نار الاقتتال في تلك الفترة، ولكنه يستشهد باستغلال السّلطة بعض الرموز الدينية، وفسح المجال أمام خطاباتها "المتشدّدة" في وسائل الإعلام والمساجد لإقامة الحجّة عليها لاحقاً، وعلى الرغم من ظهور أحزاب سياسية تختلف مع حزب "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، إلّا أنها وقّعت معها أرضية الخروج من الأزمة بسانت إيجيديو بروما، وامتنع عن التوقيع التيّار الليبرالي ممثلاً في حزب "التجمّع من أجل الثقافة والديمقراطية" أو ما يعرف بـ "الأرسيدي".
هذه الأرضية وصفها رئيس اللجنة الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان، فاروق قسنطيني، العام الماضي، بأنها كانت محاولة لتسليم البلاد للإرهابيين.
يتّفق النائب لخضر بن خلاف، رئيس الكتلة البرلمانية لـ"حزب العدالة والتنمية"، مع كثير من النقاط التي ذهب إليها العقيد سمراوي، حين يصف توقيف المسار الانتخابي في تلك الفترة بعمل منافٍ للديمقراطية، معتبراً في حديث إلى "جيل العربي الجديد"، أن الديمقراطية أتت بأناس لا يتفقون مع رجال السّلطة، ولا يخدمون مصالحهم البتّة، ولذلك أوقفوا المسار الانتخابي باستعمال وسائل الدولة، وترتّب عن ذلك مئات الآلاف من القتلى والمفقودين على حدّ تعبيره.
هنا، يعتبر بن خلاف أن السياسة متاحة للجميع لمن أراد الديمقراطية وليست حكراً عن تيّارات معيّنة، مضيفاً أن التيّارات الليبيرالية والعلمانية ليست لهم ثقة لا في أنفسهم ولا في ممارساتهم، واتهمهم بمجاورة السلطة والتغاضي عن الفساد خدمة لمصالحهم وتحقيقاً لأهدافهم، واستطرد المتحدّث، إنّ هذه التيّارات مستعدة للقيام بأيّ شيء، حتّى اللّجوء إلى استعمال العنف الجسدي واللفظي ضدّ الآخرين.
مناخ عربي
من جهته، يعطي الصحافي الجزائري، أبو طالب شبوب، المقيم في الدوحة، بعداً آخر للتطرّف الفكري، ويرى أن مجتمعاتنا وليدة ظروف مستبدة سياسياً ومغلقة إعلامياً. مضيفاً أن هذا المناخ، يدفع الجميع للشعور أنهم في وضع وحوش محشورة في قفص لا يسعهم جميعهم، مؤكداً أنه حين تصل المجتمعات إلى الاقتناع بعدم إمكانية إلغاء الآخر، فإنها ستكون على موعد مع تديّن أقل حدّة و"علمنة" أكثر ديمقراطية.
يجيب شبوب في حديث لـ"العربي الجديد"، عن سؤال متعلّق بأسباب ظهور التطرّف: "عموم شباب العالم العربي ينشأون في ظروف ضاغطة بحكم واقعنا السيّء"، مستطرداً، إن هذه الظروف "تدفع بجانبهم الشعوري إلى الجموح سواءً في اتجاه اليمين أو اليسار (التديّن أو العلمانية)، ومن الصعب أن يتمّ لجم هذا الجموح بسهولة، فالأمر يحتاج إلى تدريب نفسي وعقلي طويل".
ولا يتعجّب المتحدّث، من تنامي ظاهرة التطرّف في مجتمع يسود فيه نمط متسلّط من الموروث الاجتماعي المتلبّس بالدين، وأن يكون الردّ حادّاً من طرف المناوئين للتديّن، موضّحاً أن البديل في هذه الحالة؛ هو التحالف مع السلطة المتغلّبة لإزاحة الخصم جسدياً وفكرياً بدل منازلته ديمقراطياً، "فالديمقراطية تظل الغائب الأكبر عنّا، وفي ظل مجتمع لم يصل لمرحلة استقرار المؤسّسات والتداول عليها بشكل ديمقراطي".
سياسة تخويف
تزامناً مع مجيء الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر، وفوز النهضة بالانتخابات التونسية، رفعت الأحزاب الإسلامية في الجزائر ومن بينها "حركة مجتمع السلم" سقف رهاناتها عالياً، وتغيّرت لهجة خطابها بعد ثورات الربيع العربي، من الاكتفاء بانتقاد السلطة إلى الاغترار بالوصول إلى قيادة السلطة، الأمر الذي حرّك أقلام التيّارات اليسارية والليبرالية في الجزائر، ودفعها إلى شنّ هجومات وانتقادات واسعة على صفحات الجزائر، واستعملت في هذه الخطابات لغة التخويف من العودة إلى سنوات الإرهاب في حال وصول الإسلام السياسي إلى سدّة الحكم.
وتضمّنت خطاباتهم الدعوة إلى إقصاء الحركات الإسلامية من المشاركة في السلطة، ومباركة ما حدث في الساحة الدولية ضد الإخوان في مصر، ووصل الأمر إلى "مباركة" جرائم القتل من أجل الإبقاء على التيّارات الدينية خارج اللعبة السياسية، معتبرين أن تونس ومصر تجربتان تختلفان عن مقومّات الشعب الجزائري ولا يجب الاقتداء بهما.
يربط الصحافي الجزائري المقيم في تونس، نصر الدين بن حديد، الصّراعات الفكرية التي تصل إلى إقصاء الآخر، ومحاولة إزالة وجوده من الحياة السياسية، بثلاثية الجهل، والخوف، والإرهاب؛ مفسّراً ذلك بأنّه حين يعمّ الجهل بالآخر ينتشر الخوف، وعندما يقترن الخوف بالجهل ينشأ الإرهاب، على أساس أنه ردّ الفعل "الدفاع" عن هذه الذات الخائفة أو المرعوبة، ومن ثمّة يأتي الوعاء (الأيديولوجي أو الإيماني) عاملاً مرتبطاً بمعطى اجتماعي أو هو معرفي وثقافي، حين يشمل الخوف الجميع ويعمّ الجهل على حدّ تصوّره.
يقرأ بن حديد، سياسة رفض الشباب الليبيرالي أو العلماني أيّ شكل من أشكال التّدين، واستعمال خطاب التخويف من الإسلاميين، وتأييد قرارات سجن عدد من النشطاء السّياسيين، أن الرفض يمثل الأساس، أما قاعدة الفكر الإرهابي، القائم على القطيعة والتطهير (التكفير والهجرة) ومن ثمّة "رفض" التيارات الدينيّة أو الفكر الديني (بالجملة)، فيمثل السبيل الأفضل لمن يشعر بالخوف ويعيش الجهل.
التحذيرات المتواصلة وخطابات التخويف، الصادرة من طرف التيّارات العلمانية واليسارية في الجزائر ضد وصول الإسلاميين، تبقى مجرد تخمينات وقراءات استشرافية فقط، فالحركات الإسلامية لم تحظ بفرصة المشاركة الفعلية في السلطة، وكل ما عرفته الساحة السياسية في الجزائر هو نجاح الإسلاميين بالاستحقاقات الانتخابية لأيام قليلة فقط، قبل أن يتم توقيف "المسار الديمقراطي"، وتبدأ حملة الاعتقالات والسجن والملاحقات القضائية، واختفاء الآلاف من المنتمين للتيّار الإسلامي إلى اليوم.
(الجزائر)