الجبهة الشعبية في تونس: الأيديولوجي والسياسي

31 ديسمبر 2014

حمة الهمامي والباجي قائد السبسي في البرلمان التونسي (2ديسمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

عندما تم الإعلان عن الجبهة الشعبية في تونس، كان واضحاً أنها تسعى إلى أن تكون بديلاً عن الأطروحات السياسية والاقتصادية الليبرالية، انطلاقاً من خلفياتها اليسارية المعروفة، فمنذ نداء الجبهة الصادر في 26/12/2012، تم التأكيد على رفض انتهاج "خيارات وإجراءات اقتصادية ليبرالية متوحشة، تعمّق معاناة الشعب، وتزيد من فقر المواطنين وبؤسهم"، محملاً المسؤولية للائتلاف الحاكم، حينها، متمثلاً في الترويكا، كما أعلنت الجبهة في ندائها من "أجل تحقيق أهداف الثورة" عن رفضها انزياح البلاد نحو "استقطاب ثنائي مغشوش"، بين ائتلاف حاكم تقوده الرجعية الدينية وقوى من رموز العهود البائدة التي تعمل "على تجميع صفوفها، مستغلة تأزم الأوضاع والتفاف الائتلاف الحاكم على استحقاقات الثورة، ومهادنته رموز الاستبداد والقمع والفساد في مؤسسات الدولة والمجتمع، مستفيدة من تشتت القوى المنحازة للجماهير الشعبية المتمسكة بأهداف الثورة". وفي الاجتماع التأسيسي للجبهة الذي انعقد في قصر المؤتمرات (07/ 10/ 2012)، أكّد الأمين العام لحزب العمال والزعيم الرئيسي للجبهة، حمة الهمامي، أن جبهته الوليدة هي "الخيار الرّئيسي لتحقيق أهداف الثورة في الحرية والعدالة الاجتماعيّة والديمقراطيّة، في شكلها الشّعبي، لا الديمقراطيّة الليبرالية التي لا تخدم غير البرجوازية ورجال الأعمال والمتنفّذين مالاً وجاهاً". ولفت إلى أن "هدف الجبهة هو تكريس المساواة والعدالة الثّورية، سواء بين المرأة والرجل، أو بين الفئات الشعبية والجهات".

تم التأكيد على هذه التوجهات العامة للجبهة في "مشروع الأرضية السياسية" التي أعلنتها الجبهة الشعبية (15/12/2012)، بوصفها "تشكل الحد الأدنى السياسي والوطني لكل القوى والأطراف الوطنية والشعبية، المتمسكة بالنضال من أجل تحقيق أهداف الثورة والعمل على إنجاحها"، وهو توجه عام يمكن اختصاره في النقاط التالية:

ـ مواصلة النضال "حتى تحقيق أهداف الثورة كاملة، وإرساء سلطة الشعب"، وهو ما يتطلب تحالف جميع القوى الثورية والتقدمية "أحزاباً وجمعيات ومنظمات وشباباً وشخصيات مستقلة وتحالفها معاً في صلب جبهة شعبية، تشكل بديل حكم حقيقي".

ـ رفض الاستقطاب الثنائي، خصوصاً بين قطبي حركة النهضة والتيار الإسلامي عموماً من جهة، والقوى المتحدرة من النظام السابق من جهة ثانية، باعتبار أنهما "يلتقيان في الحفاظ على التّوجّهات الاقتصادية الليبرالية نفسها المُرتهنة للدّوائر الأجنبية".

وقد ظلت الجبهة تؤكد على رفضها التحالف مع حركة نداء تونس، باعتبارها امتداداً للنظام السابق، وتشكل خدمة لأجندات غير وطنية (تصريح حمة الهمامي لجريدة الشروق في 23/11/2012)، إلا أن الممارسة على أرض الواقع ستفضي بالجبهة إلى غير ما كانت تنادي به، لتتخندق في تحالف غير مقدس مع القوى التي كانت تعتبرها جزءاً من منظومة الفساد، فبعد اغتيال شكري بلعيد القيادي في الجبهة، وحضور "نداء تونس" في اجتماع 7 فبراير/شباط 2013، وتوقيعه على البيان الصادر عن الأحزاب، بخصوص اغتيال بلعيد، بدأت وتيرة التقارب بين الجبهة الشعبية و"نداء تونس" تتسارع، لتجمع بينهما محطات احتجاجية مشتركة، ولتنتقل إلى التنسيق التام، خصوصاً بعد الإعلان، في 21/6/2013، عن "تشكيل لجنة دائمة للاتّصال والتّنسيق لتدارس سبل توحيد المواقف السّياسية، وتنسيق المبادرات العملية وتطوير العمل المشترك بين الجبهة الشعبية والاتّحاد من أجل تونس وضبط دوريّة قارّة لاجتماعاتها". وستكون للطرفين أطروحات مشتركة، تتعلق بسقوط شرعية المجلس التأسيسي وضرورة إسقاط حكومة الترويكا، خصوصاً بعد انطلاق الحوار الوطني (16/5/2013). ويبرر حمة الهمامي هذا التحالف بقوله "لدى نداء تونس تمسك بمكاسب النساء في تونس، مثلاً، نداء تونس يريد كذلك الدولة المدنية، كل ذلك نقاط مشتركة. وبالنسبة إلينا، هذا ما جعلنا نتقارب، هذه المهمات هي التي جعلتنا نتقارب بعضنا مع بعض" (حوار مع صحيفة السفير اللبنانية بتاريخ 28/12/2013). ويصل إلى حد التأكيد أن حركة النهضة هي التي تشكل الخطر الحقيقي الذي "أصبح يهدد المكاسب في تونس، ليس فقط مكاسب الثورة، إنما أيضاً المكاسب الحضارية والثقافية في تونس" (الحوار السابق)، باعتبار أن "حركة النهضة وحلفاءها لا يمثلون قوى ديمقراطية، ولا قوى ثورية، هم لم يشاركوا أصلاً في هذه الثورة، حتى وإن كانوا معارضين لم يشاركوا فيها. فكرياً هي قوى محافظة، سياسياً هي قوى لا تبحث عن إقامة جمهورية ديمقراطية، وإنما يبحثون عن إقامة نظام استبدادي جديد، وفقاً لفكر الإخوان المسلمين" (الحوار السابق). بدأت الجبهة تنزاح نحو منطق الخصومة الإيديولوجية، بعيداً عن الصراع السياسي الطبيعي، ولتجد نفسها في أحضان قوى النظام القديم، وإذا كان للخلاف بين قوى اليسار المنضوية تحت لواء الجبهة مع التيار الإسلامي ما يبرره، باعتبار الخلافات التاريخية المعروفة، إلا أن هذا الخطاب المغرق في الأدلجة جعل من المسائل الثقافية والإيديولوجية أداة للصراع من أجل الاحتفاظ بمركز القوة، وتحقيق مكاسب سياسية، من خلال شيطنة الخصوم، وهذا النمط من الخطاب المؤدلج المرتكز على منطق إقصائي "إنما هو خطاب يتخفى وراء شيء آخر"، كما يقول روبول، كأن يرفع بعضهم لواء الحداثة والتقدمية والديمقراطية، سعياً إلى نفي الآخر، الرجعي والظلامي والمتخلف، فالأيديولوجيا، كما يقول جاك باريون "ترى عدوها دوماً وأبداً في أتباع ومعتنقي الموقف المضاد"، ليتحول هذا الخصم الذي لا يجاري الإيديولوجي في تفكيره إلى عدو الديمقراطية ونقيض التعددية والخصم الذي ينبغي فضحه، ولم لا قمعه، ليتسنى للنظام الأمثل أن يسود، وهو ما نجد له تجسيداً في تبرير الجبهة للانقلاب المصري، بوصفه إطاحة نظام الإخوان الرجعي (انظر بيان الجبهة في 05/07/2013)، من دون النظر إلى المسألة الديمقراطية، وما يسعى إليه العسكر في مصر من إعادة إنتاج نظام الاستبداد.

ويكشف هذا التقاطع بين السياسي والإيديولوجي لدى الجبهة الشعبية في تونس، وتقييمها خصومها، انطلاقاً من أرضية الأدلجة الانتقائية والحديث عن التفاضل بين "اليمين الليبرالي الحداثي"، ممثلاً في بقايا النظام السابق على حساب "اليمين الرجعي الفاشي" ممثلاً في حركة النهضة، بصورة تناقض جوهر الفكر اليساري الذي ينطلق، في مبدئه، من المضامين الاجتماعية والاقتصادية، وبناء التحالفات انطلاقاً من قضايا الحرية والعدالة الاجتماعية، فموقف الجبهة الشعبية في تونس يفضي بأصحابه إلى جملة من التناقضات، يمكن إجمالها على النحو التالي:

ـ على الرغم من الثورية المعلنة لدى أحزاب الجبهة الشعبية، ورفعها سقف مطالبها إلى حد المطالبة بإلغاء الديون الخارجية والدعوة إلى الاشتراكية، إلا أنها، في مواقفها اليومية، وفي بعض تحالفاتها، نجدها تتورط في التقارب مع قوى كانت من بقايا النظام السابق، أو تجد دعماً من بعض وجوه قطاع الأعمال الفاسد، وهو ما يثير الريبة لدى المراقبين من التناقض بين الشعارات والممارسات.

ـ تشهد مواقف الجبهة حالة من التذبذب، تكشف عن افتقادها الرؤية الإستراتيجية الواضحة، ولعل خير شاهد على ذلك موقفها من الدور الثاني للانتخابات الرئاسية، حيث جاء البيان الصادر عنها متضمناً تناقضات غير مبررة، حيث دعت، من جهة، إلى قطع الطريق على من سمّته "المرشح الفعلي لحركة النهضة"، المنصف المرزوقي، محذرة، من جهة أخرى، من عودة منظومة الاستبداد، من دون أن تنسى دعوة مناصريها إلى الإقبال على التصويت بكثافة، بصورة كاريكاتورية تدعو إلى الرثاء.

ـ إن الإشكال الذي يعيق ضبط نبض الحراك الحزبي لدى الجبهة الشعبية هو عدم استقرار ذبذبات المواقف الحزبية لديها، وارتباطه بالبحث عن المصلحة، حتى وإن ناقضت المنطلقات التي قامت عليها، وهذه المصلحية التي أخذت أبعاداً ترتبط "بالانتهازية السياسية"، المرتبطة بدورها بمفاهيم "الاحتماء السياسي"، بدل "الاقتناع السياسي"، بمعنى أن أحزاب الجبهة لم تعد تفكر في موقعها السياسي، انطلاقاً مما يقتضيه من وفاء بوعودها التي قدمتها لقاعدتها الناخبة، والتي على أساسها أحرزت 15 مقعداً في انتخابات مجلس نواب الشعب، وإنما أصبحت تمارس العمل السياسي بمنطق ضرورة إقصاء من تعتبرهم خصوماً إيديولوجيين، وهو أمر تجلّى في بيانها الصادر بتاريخ 24/12/2014، حيث أكدت أن الحكومة المقبلة لن توفق في إنقاذ تونس، إلا إذا استبعدت من تركيبتها من أطلق عليهم البيان "رموز الفشل من منظومة الترويكا المتهاوية"، من دون أن ينسى البيان إدانة ما سمّاها "التصريحات المتشنجة واللامسؤولة للمترشح المنصف المرزوقي"، وهو موقف يُظهر الجبهة بصورة الباحث عن حلف مع "نداء تونس"، شريطة استبعاد حركة النهضة من جهة، وشيطنة التيار الشعبي الملتفّ حول المرزوقي من جهة أخرى، وما يمكن توصيفه بأن الجبهة تبحث عن نمط جديد من الولاء السياسي المقنّع بالأيديولوجيا المنفعية التكتيكية التي تحتمها ضرورات المصلحة و"ريع المرحلة"، وهي أمور تجلت في التحالف مع قوى، تمثل الثورة المضادة في تونس (حسب توصيف الجبهة نفسها)، قوى تتلقى الدعم من أطراف خارجية، كانت أحزاب الجبهة تستميت في وصفها بالرجعية والعمالة وخدمة الامبريالية والرأسمال المعولم، وهذه القناعات، المرتحلة سياسياً، جعلت الجبهة الشعبية تتخلى عن إرثها الفكري، على الأقل في جانبه الاجتماعي، وأيضاً من حيث مناصرتها الثورة لتنزاح إلى الصراع مع حركة النهضة التي تحاول، بدورها، بناء تحالف مع "نداء تونس" الذي أفلح، إلى حد اللحظة، في استثمار هذه التجاذبات لمصلحته.

إن منحنيات السلوك السياسي للجبهة الشعبية وتراوحها بين الأدلجة المفرطة والمصلحية المبالغ فيها تكشف عن مدى التحول الذي لحق ببنية الأحزاب السياسية التونسية بعد الثورة، وهو أمر لا يختص به حزب، أو تيار بعينه، وإنما شمل كل القوى السياسية التي تحاول تطبيع أوضاعها مع تحولات سياسية متسارعة، لم يستطع أي طرف ضبط إيقاعها.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.