"قولوا للكلب العدلي وسيده.. بكرة الثورة هتقطع إيده".. هتاف مما كان يهتف قبل الثورة، كنت أردده كثيراً، وفي بالي أقول: قطع اليد عليهما هينٌ، قولوا لهما ولغيرهما، إن ثورتنا ستقطع أيديهم، وأرجلهم، ستصلبهم على جذوع النخل، حتى تتدلى رؤوسهم من على المِقصلة أخيراً.
أتذكر الهتاف اليوم، وأتذكر ما كان ببالي، فلا أرى أيدي قطعت، إلا أيدينا، ولا أرجل كسحت، إلا أرجلنا، ولا رؤوساً تدلت، إلا رأس زينب، ورأس محمد، فيا للأيام!
"حسبنا الله ونعم الوكيل".. كلمة سمعتها اليوم كأني لم أسمعها من قبل، حين وردتني رسالة صوتية من أحد الأقرباء المعتقلين بسجن "دمو" بمحافظة الفيوم، يقول لي فيها "إيه اللي حصل؟" وكلاماً آخر لم أتبينه، من شدة صراخ الجموع المحبوسة بالكلمة، ابتهالاً في صلاتهم، بنبرة تذيب القلب، كدت أبكي لوقعها على النفس، لكني لم أفعل، ولم أجد القدرة على معاودة الاتصال به لأجيب عن السؤال، فهل لم يزالوا يصرخون؟
يا محمد، يا شهيداً لا يُسمع الموتى، وأنت حي تسمع، ما بالك قد شهدت المشاهد كلها من أجل الرحيل والقصاص، ثم الآن يقتص منك أنت، وأنت الراحل؟! يا زينب، يا صغيرة شجاعة، هل من مثل هذا قد أنفتِ العيش؟ ماذا عساك لو كنت حيةً هذه الساعة؟ يا خالد سعيد، يا تعويذة الثورة، هل تطفأ نار كان وقودها الدم؟
يا للأيام، يبرأ العادلي وسيده.. فابتسم بهدوء، أو أشح بوجهك عبوساً، اضحك صاخباً، ابكِ بحرقة، استهزئ، خذ الأمر بجدية، تراقص على كل سلالم الشعور، تناقض تناقضاً أكبر من الذي نحياه، مزق نفسك بين سُلَّمة وأخرى، قطعها بين اليأس والأمل، قل إن الثورة في سُبات، لن توقظها إلا صفعة، وقد صفعت، وها هي تستيقظ، قل إن الثورة ماتت، لا يضرها سلخها بعد ذبحها، وها هي تسلخ، اطلب الثأر من نفسك، ثم برئها، اطلبه من غيرك مرة أخرى، ثم تنازل عنه، تقبل الدية والعزاء، فتش في صندوق ذاكرتك، ابعث ما به حياً، أشعل فيه النيران تميته للأبد، اسكر كأساً، مُسكرةً سُماً، انهض وصل صلاة مودع، ثم اكفر.
كرر ما شئت، فأنا أعرفك، ولا أخشى عليك، وساوس هذه الخيالات، فليست الخيالات تغني عن حقيقة مثلك شيئاً، أنا أعرفك، وأعرف أنك لا تخون، حتى وإن ماتت الثورة كما يزعمون كذباً، فإن الثأر لا يموت، أنت لن تصالح على يُتم ابن أخيك، فدعك من كلام اليأس والأمل، والإحباط والتفاؤل، فإنك لست معنياً بما يتفاءل الناس به، أو ييأسون منه. أنت معني بنفسك، نفسك التي لو رضيت عليك كل شيء، فلن ترضى عليك لباس العبودية والإذلال. إن الثورة أنت، لا نخشَ عليها، إذ لا نخشى عليك.
أنت لن تكون عبداً، ولن تعيش بين الأنام ذليلاً، فقاتل عن نفسك، واعلم أن الثأر عزتك والحرية، فدونك دونك.
*مصر