08 نوفمبر 2024
التي لا شبيه لها
صدر في نهاية عام 2010 قرارٌ بمنع السفر بحقي من جهة أمنية عليا، على غرار ما حدث مع كتاب عديدين في تلك الفترة. وعلى الرغم من أنني قبل الثورة لم أكن أكتب في السياسة، ولم يكن لي أي نشاط سياسي، ولم أصنف نفسي معارضة ذلك الزمن. ومع ذلك، مُنعتُ من السفر، واستدعيت إلى التحقيق الأمني مرات عديدة، بين دمشق، حيث المركز الأمني الأول المصدر لهذه القرارات، وطرطوس، باعتبار أن قيد نفوسي تابع لها. أتذكر أن تحقيقاً معي في فرع الأمن السياسي في طرطوس، استمر ساعات طويلة، (كان هناك ملف ضخم خاص بي، ممتلئ بأوراق هي تقارير أمنية عني أرسلها "مواطنون شرفاء"، أو موظفون متعاقدون خفاءً مع الأمن، بعضهم، للأسف، كان من دائرة الأصدقاء). تلى عليّ الضابط المحقق محاضرة طويلة حول كيف يكون الإنسان السوري وطنياً، ومواطناً صالحاً، خصوصاً في ظل المؤامرة الدولية التي تستهدف سورية الأسد (لم تكن المؤامرة قد أصبحت كونيةً يومها). فسورية الأسد، حسب المحقق، "هي الدولة العربية الوحيدة التي تعمل جاهدة من أجل رفعة العروبة ومجدها، ولا يشغل بال (السيد الرئيس بشار حافظ الأسد) سوى هذا الحمل الثقيل، بعد أن انشغل الزعماء العرب في تثبيت دعائم سلطتهم، وباعوا القضية القومية بما فيها، خصوصاً مصر التي لا هم لرئيسها حسني مبارك غير محاولة توريث نجله الأكبر جمال"!.
كنت أهزّ رأسي، وأنا أستمع إلى محاضرته مذهولة، من دون أن أتمكّن من نطق حرف واحد، إذ بدا المحقق مقتنعاً تماماً بأن ما حدث في سورية من تسليم وراثي للحكم، بمباركة دولية، فعل ديموقراطي بحت، وأن الشعب السوري مارس حقه الدستوري الطبيعي والمكتسب، وانتخب رئيسه انتخاباً شرعياً، مثلما يحدث في فرنسا أو أميركا أو أيٍّ من دول العالم الأول. كانت لدى المحقق قناعة تامة بأن سورية الأسد دولة عظمى، وتنافس في تطورها وحرياتها، الفردية والعامة، وديموقراطيتها دول العالم الأول. وللمفارقة، من التهم التي وُجهت لي في التحقيق "أنني أقيم علاقات من جماعة المجتمع المدني من غير المرضي عنهم"، وأنني "أقيم علاقات غرامية مع الرجال"! كنت أود لو سألته وقتها عن التهديد الذي تشكله علاقاتي الغرامية على أمن سورية الأسد، لولا أنني كنت خائفةً على أمني الشخصي حقاً.
ومن مفارقاتٍ مذهلةٍ أيضاً تلك الفترة، أنه ومع بداية عام 2011، قبل أن تكون الثورات العربية قد خطرت على بال أي مواطن عربي، أذكر أن صحيفة الأهرام المصرية، غالباً، أجرت استطلاعاً عن تمنيات المثقفين المصريين لعام 2011. كان مدهشاً لي أن بعض المثقفين تمنوا التالي: "زوال عائلة مبارك عن المشهد السياسي المصري"، وأن الأمنية نشرت كما هي في الصحيفة المصرية الكبرى، من دون أن يتعرّض صاحب الأمنية للاعتقال أو التحقيق أو المنع من السفر، أو أي إجراء يمس حريته بوصفه مواطناً مصرياً. تمنيت يومها لو أرسل الصحيفة المصرية والاستطلاع إلى المحقق السوري الوطني، لولا أنني أيضاً كنت خائفة على أمني الشخصي.
لم يكن الوضع في "سورية الأسد" يشبه أي شيء آخر. كانت حالة فريدة من الكذب والمزاودة والاستعلاء والإنكار والوقاحة والصفاقة والفساد الممنهج، يغلف ذلك كله غلاف من القمع وتكميم الأفواه وتجريف الحياة المدنية والسياسية، وبيع اقتصاد البلد وأراضيه وقراراته، واللعب بديموغرافيته بسبب التحالفات السياسية التي أوصلت سورية إلى حالها اليوم. لم يكن الوضع يشبه أي شيء آخر. لهذا كان سينفجر ذات يوم، وكان انفجاره سوف يؤدي إلى الكوارث الحاصلة نفسها، إذ كان الخراب قد تمكن من نهش كل شيء، لم يبق على أحد، لم يترك منفذاً لم يصل إليه. هل "كنا عايشين" فعلاً، كم يحلو لكثيرين القول اليوم؟
المذهل أن سبع سنوات متواصلة من المقتلة لم تغير شيئاً في "سورية الأسد". الصفات نفسها التي تميزها بشاعة عن غيرها بقيت كما هي. وزاد عليها الإجرام الفاجر العلني، والخراب نفسه الذي أكل كل شيء بقي كما هو. زاد عليه أنه أصبح متعدّد الوجوه والاصطفافات، ما يستدعي سؤالاً مؤلماً: هل هذا البلد الخرب بما فيه يمكنه أن ينهض ثانية؟.
كنت أهزّ رأسي، وأنا أستمع إلى محاضرته مذهولة، من دون أن أتمكّن من نطق حرف واحد، إذ بدا المحقق مقتنعاً تماماً بأن ما حدث في سورية من تسليم وراثي للحكم، بمباركة دولية، فعل ديموقراطي بحت، وأن الشعب السوري مارس حقه الدستوري الطبيعي والمكتسب، وانتخب رئيسه انتخاباً شرعياً، مثلما يحدث في فرنسا أو أميركا أو أيٍّ من دول العالم الأول. كانت لدى المحقق قناعة تامة بأن سورية الأسد دولة عظمى، وتنافس في تطورها وحرياتها، الفردية والعامة، وديموقراطيتها دول العالم الأول. وللمفارقة، من التهم التي وُجهت لي في التحقيق "أنني أقيم علاقات من جماعة المجتمع المدني من غير المرضي عنهم"، وأنني "أقيم علاقات غرامية مع الرجال"! كنت أود لو سألته وقتها عن التهديد الذي تشكله علاقاتي الغرامية على أمن سورية الأسد، لولا أنني كنت خائفةً على أمني الشخصي حقاً.
ومن مفارقاتٍ مذهلةٍ أيضاً تلك الفترة، أنه ومع بداية عام 2011، قبل أن تكون الثورات العربية قد خطرت على بال أي مواطن عربي، أذكر أن صحيفة الأهرام المصرية، غالباً، أجرت استطلاعاً عن تمنيات المثقفين المصريين لعام 2011. كان مدهشاً لي أن بعض المثقفين تمنوا التالي: "زوال عائلة مبارك عن المشهد السياسي المصري"، وأن الأمنية نشرت كما هي في الصحيفة المصرية الكبرى، من دون أن يتعرّض صاحب الأمنية للاعتقال أو التحقيق أو المنع من السفر، أو أي إجراء يمس حريته بوصفه مواطناً مصرياً. تمنيت يومها لو أرسل الصحيفة المصرية والاستطلاع إلى المحقق السوري الوطني، لولا أنني أيضاً كنت خائفة على أمني الشخصي.
لم يكن الوضع في "سورية الأسد" يشبه أي شيء آخر. كانت حالة فريدة من الكذب والمزاودة والاستعلاء والإنكار والوقاحة والصفاقة والفساد الممنهج، يغلف ذلك كله غلاف من القمع وتكميم الأفواه وتجريف الحياة المدنية والسياسية، وبيع اقتصاد البلد وأراضيه وقراراته، واللعب بديموغرافيته بسبب التحالفات السياسية التي أوصلت سورية إلى حالها اليوم. لم يكن الوضع يشبه أي شيء آخر. لهذا كان سينفجر ذات يوم، وكان انفجاره سوف يؤدي إلى الكوارث الحاصلة نفسها، إذ كان الخراب قد تمكن من نهش كل شيء، لم يبق على أحد، لم يترك منفذاً لم يصل إليه. هل "كنا عايشين" فعلاً، كم يحلو لكثيرين القول اليوم؟
المذهل أن سبع سنوات متواصلة من المقتلة لم تغير شيئاً في "سورية الأسد". الصفات نفسها التي تميزها بشاعة عن غيرها بقيت كما هي. وزاد عليها الإجرام الفاجر العلني، والخراب نفسه الذي أكل كل شيء بقي كما هو. زاد عليه أنه أصبح متعدّد الوجوه والاصطفافات، ما يستدعي سؤالاً مؤلماً: هل هذا البلد الخرب بما فيه يمكنه أن ينهض ثانية؟.