التأريخ الموسيقي في مصر: معلومات خاطئة صارت حقائق

01 ابريل 2019
"كوكب الشرق" (Getty)
+ الخط -
يكاد التأريخ الموسيقي في مصر، أن يكون مبنياً على مجموعة من الإشاعات التي لا أصل لها، والأوهام التي أثبتت الأيام زيفها وتهافتها. المقالات والموضوعات الموسيقية في الصحف، البرامج الإذاعية، اللقاءات التليفزيونية، كلها لا تكاد تسلم من الإشاعات والأكاذيب التي انتشرت وتكررت واستقرت، حتى كادت تتحول إلى حقائق لا يجوز المساس بها. 

ولعل أكبر الإشاعات وأكثرها انتشاراً وضرراً، القول بهيمنة الموسيقى التركية، وطرائق الغناء العثمانية على فن الغناء والتلحين في مصر، حتى أواخر القرن التاسع عشر، عند من يزعم أن محمد عثمان هو محرر الموسيقى المصرية من تلك الهيمنة التركية، أو حتى العقود الأولى من القرن العشرين عند من يدعي أن سيد درويش هو مبعوث العناية الفنية لتمصير الغناء والتلحين. فإذا ذهبت تسألهم: ما هي مظاهر هذه الهيمنة التركية المزعومة؟ لم يجدوا ما يستندون إليه إلا وجود عبارة "آمان يالالالي" في غناء عصر النهضة الموسيقية قبل ظهور سيد درويش. علماً أنّ تسجيلات عصر الأسطوانات وهي بالآلاف، تنسف هذا الادعاء نسفاً، بل مجرد الوعي بالقوالب الغنائية المختلفة كاف ليعصم صاحبه من الوقوع في هذا الخطأ الشنيع أو تصديق هذه المقولة.

فمن قبل سيد درويش، بعقود، بل بقرون، عرف الغناء العربي قالب القصيدة، ولا يتضمن هذا القالب عبارة "آمان يالالالي" أبداً. وعرف طرب النهضة "الدور"، وهو قالب مصري صرف، ترك أعلام الطرب منه روائع خالدة، ولا يوجد دور واحد به "آمان يالالالي". وعرف طرب النهضة قالب الطقطوقة، التي كانت دائماً وعاء للغناء الخفيف، وأحياناً الخليع، ولا تحمل الطقطوقة المصرية لفظة "آمان يالالالي"، وقل مثل هذا في الموال، والنشيد، وبالطبع في المنولوج الذي لم يكن معروفا، ولم يظهر إلا في صورة بدائية مع سيد درويش، ثم استقر وانتشر على يد محمد القصبجي.


لم يبق إلا قالب الموشح، إذ تضمنت بعض صيغ هذا القالب عبارة "آمان يالالالي"، فهل وجود مثل هذه اللفظة كاف للزعم بالهيمنة التركية على الموسيقى والغناء في مصر قبل سيد درويش؟ والسؤال الأهم: هل تخلى الشيخ سيد عن هذه العبارة في كل الموشحات التي لحنها، ليحررها من التتريك المزعوم؟ والإجابة القاطعة هي لا. إذ نجد "آمان يالالالي" في كثير من موشحاته ومنها: "يا عذيب المرشف"، و"صحت وجدا"، و"العذارى المائسات"، و"يا غصين البان"، و"منيتي عز اصطباري"، و"يا ترى بعد البعاد". ومن المهم أن نذكر بأن "آمان يالالالي" ترد في الموشح كتتميم إيقاعي، وحلية للترنم، وأنها لا تكون أبداً من بنية النص المكتوب، أي أنها قرار صرف للملحن لا للمؤلف، مما يعني أنها في الموشحات المذكورة كانت اختياراً وقراراً لسيد درويش، محرر الموسيقى وممصرها بزعم هواة الأكاذيب.


يتحدث متخصص أكاديمي في إحدى الفضائيات المصرية، فيزعم أن محمد عثمان حرر الموسيقى المصرية من الآلات التركية، مثل: البُزق، والسنطور، والآلات الإيقاعية العثمانية، حيث استبدل بها العود والقانون والطبلة البلدي والدف، مكونا أول تخت مصري عام 1840. لا يكلف الأكاديمي المتخصص الذي يحمل الدكتوراه ويدرس للطلبة نفسه عناء إثبات وجود هذه الآلات التركية في مصر، ولا يقدم لنا مصدراً واحداً عن دور محمد عثمان في مواجهة هذه الآلات. والأهم من كل هذا أنه لم يكلف نفسه عناء البحث عن تاريخ ميلاد عثمان، ولو فعل لعرف أنه ولد عام 1855، وبالطبع لتجنب أن ينسب إليه تكوين أول تخت مصري قبل أن يولد بـ 15 عاماً.

يساهم كبار الملحنين في نشر الإشاعات، فالشيخ سيد مكاوي، يتحدث عن الموسيقي المصري الكبير الشيخ درويش الحريري، فيزعم أن الرجل لحن خمسة آلاف موشح. تلك إشاعة تجد لها رواجاً، فالمتحدث ملحن مشهور له شعبية كبيرة، والمُتحدث عنه رجل لا يعرفه الجمهور الواسع. لكن الحقيقة تقول إن الموشحات العربية كلها لا تصل لرقم ألف، وأن نصيب الشيخ درويش الحريري من تلحينها لا يمكن أن يبلغ عشرة موشحات بأي حال. نعم، كان الرجل راوية للموشحات، وسجل العشرات من نوادرها لمؤتمر الموسيقى العربية عام 1932، على سبيل التوثيق، لكن لا هو ولا غيره ولا قدرة لإنسان على تلحين 5 آلاف موشح.

فاطمة إبراهيم البلتاجي، بهذه العبارة تُستهل 99% من الموضوعات الصحافية والبرامج التليفزيونية عن سيدة الغناء العربي أم كلثوم. إشاعة أخرى انتشرت واستقرت، لا سيما بعد أن وقع فيها كبار لهم شأن وصيت، ألم يذكرها الكاتب الشهير أنيس منصور؟ ألم يسمّ نجيب محفوظ ابنتيه فاطمة وأم كلثوم حبا في صاحبة الصوت الآسر؟ ألم يكررها التلفزيون المصري مراراً كل عام في احتفالاته بذكرى رحيل كوكب الشرق؟.. لكن الحقيقة التاريخية تقطع بأن أم كلثوم سميت باسمها ليلة ميلادها، ولم تسمَّ يوماً باسم فاطمة، ولم يكن "أم كلثوم" اسماً فنياً. لذا لا تجد هذه الإشاعة مكانا لها في أي كتابة جادة أو شبه جادة عن السيدة الكبيرة. لم تذكرها الدكتورة نعمات أحمد فؤاد، في كتابها المرجعي "أم كلثوم.. عصر من الفن" وهو أول كتاب يصدر عن كوكب الغناء، وطبع في حياتها وقرأته. أما إلياس سحاب في موسوعته، فأكد أن "أم كلثوم" هو اسمها وليس اسماً فنياً. لعل الإشاعة وجدت سبيلها لكون "فاطمة" هو اسم والدة أم كلثوم.

الإشاعات حول أم كلثوم حجمها بحجم مكانة أم كلثوم. نختار منها واحدة ذاعت واستقرت، وذكرها كبار مشتهرون، وذلك أن أحدهم زعم أن أم كلثوم حينما كانت تستعد لغناء قصيدة "أراك عصي الدمع" بألحان السنباطي عام 1966، جاءت عند البيت الذي يقول فيه أبو فراس الحمداني: "بلى أنا مشتاق وعندي لوعة.. ولكن مثلي لا يذاع له سر"، فخاطبت السنباطي مستنكرة: "إيه دي يا رياض؟ عايزني أنا أقول على المسرح "بلى"؟ وزعم إعلامي كبير حضوره هذه الواقعة بنفسه، وفاته أن كل مطربي عصر النهضة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، غيروا "بلى" إلى "نعم" مخالفة للقاعدة النحوية في جواب الاستفهام المنفي، وفرارا من غناء لفظة "بلى"، ومنهم أم كلثوم نفسها حينما سجلت القصيدة عام 1926، قبل أن تغنيها من ألحان السنباطي بأربعة عقود. لكن الإشاعة باضت وفرخت، وخدع بها الإذاعي الكبير الراحل فاروق شوشة صاحب الصوت المميز، فذكرها في معرض مدحه لثقافة أم كلثوم اللغوية ورهافة حسها بالكلمة.

محمد عبد الوهاب، يتحدث عن التجديد الذي أضافه في قصيدة الجندول، فيرى أن الجديد فيها كان السرعة، فالكلمات في مطلعها تغنى بنفس سرعة القراءة العادية تقريباً. ثم يضيف إلى السرعة وصل الجمل كاملة دون تقطيع. "أين من عيني هاتيك المجالي". هنا يأخذ المتلقي كلام موسيقار الأجيال على محمل الجد والدقة، فالرجل يتكلم عن نفسه ولحنه. لكن الحقيقة التي تثبتها التسجيلات تقول إن عبد الوهاب لحن البيت الشعري متصلاً دون تقطيع قبل الجندول بسنوات، ومن ذلك استهلاله لقصيدة "يا جارة الوادي" عام 1928، أي قبل الجندول بـ13 عاماً. يسهم الفنان الكبير بنفسه في نشر معلومات مغلوطة حول إنتاجه، وبغض النظر عن أن تقطيع البيت أو وصل كلماته لا يحمل بذاته أي قيمة سلباً أو إيجاباً. لأن عبد الوهاب الذي يحتفي بوصل الكلمات في البيت جاء في عقد الستينيات ليقطع كلمات الشطرة الأولى من قصيدة "هذه ليلتي"، ففصل أداة الإشارة عن المشار إليه، أو المبتدأ عن خبره. ولحنها "هذه" ثم لازمة موسيقية ثم "ليلتي". لكن الكتابات الصحافية عن عبد الوهاب ظلت إلى يومنا هذا تذكر أن الرجل هو أول من لحن كلمات البيت الشعري موصولة، وذلك في قصيدة "الجندول".

عازف عود شهير، هو نصير شمة، يتحدث مراراً عن المقرئ العبقري الشيخ مصطفى إسماعيل، فيؤكد أن عبد الوهاب استعان به في تلحين قصيدته الشهيرة "سهرت"، بعد أن توقفت قريحة موسيقار الأجيال فلم تسعفه بطريقة مرضية للعودة من مقام "السيكاه" البلدي إلى "النهاوند". تنتشر المعلومة الخاطئة كالنار في الهشيم، ويرددها محبو مصطفى إسماعيل. لكن حقائق التاريخ تقرر أن عبد الوهاب لحن "سهرت" عام 1935، وأن الشيخ مصطفى لم يأت إلى القاهرة ولم يعرفه سكان العاصمة إلا عام 1945.. والغالب أن استعانة عبد الوهاب –إن صحت- كانت بالمنشد الكبير الفذ الشيخ علي محمود.
المساهمون