البعد الخفي في الأزمة الخليجية

26 يونيو 2017
+ الخط -
ثمّة بعد خفي في الأزمة الخليجية الحالية، لم يحظ بما يستحق من انتباه.. فالأزمة، بشكل ما، تجسّد صراعاً أو تنافساً حول "النموذج الإقليمي"، أو الصورة الذهنية التي تتشكل للدولة بفعل عوامل ومقومات متعدّدة. تشمل قدرات القوة الشاملة، وتراكمات التاريخ والجغرافيا السياسية، وديناميات إدارة سياسات الدولة داخلياً وخارجياً. بفضل هذه المقومات، تتحدّد مكانة الدولة وثقلها، وتتموضع في موقعٍ معينٍ في محيطيها، الإقليمي والعالمي. ويعد تقديم "النموذج" أحد تجليات التنافس على القيادة والمكانة الإقليمية، والعالمية أيضاً، فقد كان "النموذج" الغربي (الأميركي بالأساس) أحد أمضى الأسلحة في الصراع بين الشرق والغرب. ولعب دوراً محورياً في تفكيك "النموذج" الشيوعي/ الاشتراكي وتقويضه.
في المنطقة العربية، يوجد التنافس ذاته، لكن على نطاق ضيق وأكثر بدائية. ويتجدّد مع كل تحول عالمي مهم، أو حزمة تطورات تضرب المنطقة. وقبل ست سنوات، تعرّضت المنطقة لموجة الانتفاضات الشعبية التي عرفت باسم "الربيع العربي". وكان من انعكاساتها أن انهارت النماذج التقليدية الراسخة لدولٍ، ينتمي بعضها للنموذج المحافظ، وأخرى لنموذج القائد التاريخي. قبل الربيع العربي، كانت حدّة المنافسة بين تلك النماذج محصورةً في نطاق ضيق. نتيجة الالتزام بقواعد للتوافق والاختلاف، وعدم اجتياز خطوط حمراء جرى ترسيمها وترسيخها عبر زمن طويل. بعد الربيع العربي، باعتباره رد فعل على هذا الالتزام وليس نتيجة له، كُسرت القواعد المنظمة، ومُحيت الخطوط المُلزمة. خصوصاً من الدول التي ضرب الربيع العربي نظم الحكم فيها وأسقط شرعيتها، وتلك التي نجت منه بالكاد. إذ صارت إعادة بناء "النموذج" أحد المداخل الرئيسة لاكتساب الشرعية الغائبة، واستعادة المكانة الساقطة.
بذا، يمكن فهم حالة التربص المتبادل بين بعض الدول العربية في مرحلة ما بعد الربيع العربي، أي في العامين أو الثلاثة الأخيرة. خصوصا إذا كانت الأمور تديرها نظمٌ حاكمة غير ديمقراطية، لا تتبنى نموذجاً تنموياً أو فكرياً، ولا تملك مشروعاً سياسياً أو غير سياسي. فيكون البديل عن طرح النموذج الذي تفتقده، ضرب النماذج الأخرى، خصوصاً التي تجسّد مثالاً معاكساً لكنه ناجح. والهدف هنا مزدوج، تقويض "نموذج" الآخر لتعويض الخواء وغياب النموذج الذاتي. واختلاق عدوٍّ تُنسَب إليه الإخفاقات المتتالية، وتُصَدَّر إليه مسؤولية الفشل. لهذا، يتجه التركيز إلى أدوات ووسائل التأثير (خصوصا الإعلام) وليس إلى مضمون سياسات الدولة النموذج وجوهرها، إذ المضمون أقوى من الطعن فيه. بينما من السهل التشكيك في النيات وإساءة تفسير أي انتقاد أو كشف للحقائق، ووصفه بالمؤامرة.
في سياقٍ مواز، جاء سلوك بعض الدول التي لم تتأثر، ولو من بعيد، بالربيع العربي. ومنها بلدان خليجية، بدت كما لو كانت محصّنةً ضد الانتفاضات الشعبية. لم تكتف بعض تلك البلدان بالعمل على تقديم نفسها نموذجاً إقليمياً يعتمد عليه، ولم تكفّ عن عرض خدماتها، باعتبارها وكيلاً إقليميا للقوى الكبرى، خصوصا الولايات المتحدة، مستخدمةً كل المداخل، بما فيها التقرب إلى تل أبيب ربيبة واشنطن. ويبدو أنها وجدت ضرورة، لتحقيق هذا الهدف، أن يتم ضرب أي نموذج مشابه، خصوصا إذا كان ناجحاً ومؤثراً، كما في حالة قطر التي قدّمت نموذجاً للدولة التي تملك قنوات تأثير في كل الاتجاهات، ومنفتحة على كل الأطراف، فتقيم علاقاتٍ مع "حماس"، ومع إيران كما مع تركيا. والحكم بالنجاح والتأثير هنا لا يرتبط بالضرورة بمعايير أخلاقية أو قيمية، فالأمر لا يتعلق بالصح والخطأ أو الخير والشر.
لذا، لن تنتهي الأزمة بين دول المقاطعة وقطر، حتى وإن انصاعت الدوحة واستجابت لكل المطالب، فلا يتعلق الأمر فقط بسلوكيات أو تحرّكات محدّدة، وإنما أيضاً، لدى بعضهم، بالعجز عن مجاراة ذلك النموذج الذي يجسّد سرعة الاستجابة للتطورات وديناميكية الحركة وبراغماتية الحسابات. ولدى آخرين، بالرغبة في طرح النموذج نفسه. وبالتالي، ضرورة إزاحته، حتى يمكن الحلول محله، إقليمياً وعالمياً.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.