يخشى أمين طابع الذهب في مدينة المهدية التونسية منصف شارقة، من تنامي عمليات الغش في المعدن النفيس، نتيجة الطوابع (الدمغة) غير المطابقة، والتي يدمغ بها الذهب المباع للمستهلكين، بالإضافة إلى التلاعب في القفل الذي تغلق به الأساور أو السلاسل الذهبية.
قضى شارقة 40 عاما في مراقبة الذهب التونسي وتقديم النصائح للحرفيين بحسب المهمة الموكلة إليه من قبل وزارة المالية، وخلال تلك الفترة كشف عمليات غش عديدة في المصوغ كما يقول موضحا أن الأمر يتم عبر التلاعب في مكونات الذهب عبر مزجه بالحديد والنحاس والسليكون، وتابع "مؤخرا اكتشفت أن وزن القفل الواحد لكل سوار من 3 أساور لسيدة زارتني في محلي بالمهدية، يبلغ وزنه غراماً ونصف غرام، وبالتالي أصبح لديها 4.5 غرامات من الحديد ما يعني خسارتها لـ 450 دينارا (185 دولارا أميركيا) من قيمة المصوغ".
بلغ عدد محاضر الاشتباه في تزوير طابع الذهب خلال العامين المنصرمين 240 محضرا بحسب ما أفاد به "العربي الجديد" نائب رئيس الغرفة الوطنية لتجار المصوغ التابعة للاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (منظمة غير حكومية) عرفات مرساوي، فيما تحتجز مصالح الديوانة (الجمارك) 1.2 طنا من الذهب المزور والمهرب و3 أطنان ونصف الطن من الفضة إضافة إلى 4.3 طن من المرجان منذ بداية عام 2017 وحتى نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي وفقا لتصريحات وزير المالية التونسي رضا شلغوم خلال جلسة استماع حول الوضع المالي للبلاد عقدتها لجنة المالية والتخطيط والتنمية بمجلس النواب في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017.
كيف يجري تزوير طابع الذهب؟
تعد تونس من البلدان التي تستعمل الطابع لإثبات قانونية وجودة الذهب، بحسب مرساوي، والذي لفت إلى أنه تم في عام 2003 تم تغيير طابع الذهب من "رأس كبش" إلى "علم" تونس للحد من عمليات التزييف والمتاجرة الممنوعة لتصبح كل قطعة ذهبية خاضعة وجوبا لثلاثة طوابع تكون في أي قطعة ذهبية، وهي طابع الدولة "العلم" وطابع الحرفي "اسمه ورقمه" وطابع العيار "ذوق" 9 و18 و24 ولكن الطوابع الثلاثة يسهل تزويرها كما يقول.
وتزور الطوابع عبر استئجار المزورين لنماذج من الحرفيين وتقليدها بعد صناعتهم للذهب في الخفاء بعيدا عن أعين الجهات الرقابية ووضع الطابع المقلد عليه، رغم أنه يمنع على الحرفيين تأجير طوابعهم الرسمية لأي كان بحسب منصف شارقة، لكن تعمل بعض المحلات بشكل غير قانوني، ولا يمكن في حالات كثيرة التمييز بين الطابع الأصلي والمزور بحسب ما قاله عبد اللطيف الشعيبي صاحب ورشة لصناعة وبيع الذهب في سوق البركة وسط العاصمة التونسية لـ"العربي الجديد".
وأدى تواتر تدليس الطابع الرسمي للذهب التونسي، إلى تحذير اللجنة التونسية للتحاليل المالية التابعة للبنك المركزي التونسي في تقريرها "التقييم الوطني لمخاطر غسل الأموال وتمويل الأموال" الصادر في إبريل/نيسان 2017 من خطورة الظاهرة بالإضافة إلى خلط الذهب بالنحاس والمعادن الأخرى لصنع مصوغ يعرض على أنه ذهب خالص، وعدم احترام إجراءات بيع هذا المعدن للمستهلكين "الوزن والعيار ومصدر السلع"، وبحسب التقرير فإن قطاع الذهب في تونس معرض لـ"تهديدات مرتفعة" نتيجة سوء تنظيم القطاع وتفشى التهريب.
قانون تجاوزه الزمن
يعاقب الفصل 31 من قانون المعادن النفيسة عدد 17 لسنة 2005 بالسجن لمدة 10 أعوام وبخطية (غرامة) قدرها 50 ألف دينار (20574 دولارا) كل من يتولى صنع طوابع مقلّدة للطوابع القانونية الخاصة بالمعادن النفيسة.
ويعاقب القانون بالسجن لمدة 6 أعوام وبخطية قدرها 30 ألف دينار (12344 دولار) كل من يتولى مسك، أو استعمال طوابع مقلدة للطوابع القانونية الخاصة بالمعادن النفيسة، كما يعاقب بالسجن لمدة 5 أعوام وبخطية قدرها 20 ألف دينار (8229 دولاراً) كل من يتولى صنع طوابع عرف مقلّدة، ويعاقب بالسجن لمدة ثلاثة أعوام وبخطية قدرها 10 آلاف دينار (4114 دولار) كل من يتولى مسك أو استعمال طوابع عرف مقلدة وفقا للفصل 32 من نفس القانون.
"لكن القانون 2005 لا يخلو من سلبيات، إذ تم وضعه بصفة وقتية على أساس أن يتم تنقيحه"، غير أنه ظل على حاله بحسب الصائغين الذين التقتهم معدة التحقيق ومن بينهم عرفات مرساوي، والذي قال إن القانون قائم على وجود الطابع "دمغ الذهب"، لكن أمام تنامي ظاهرة تدليس الطابع فإنه لم تعد هناك أي جدوى من الإبقاء عليه، كونه يعتمد على الفحص التقليدي بالعدسة المكبرة، وهي وسيلة غير دقيقة لفحص الذهب، لأنها تعتمد على مسائل تقديرية، وباجتهاد من المراقب، ما يفسح المجال للرشاوى بين عون المراقبة والتاجر، لتجنب محضر عدم وضوح الطابع على قطعة الذهب، رغم أنه أحيانا لا يظهر بسبب التقادم، أو نتيجة كثرة الاستعمال، وبمجرد إقرار المراقب أن الطابع غير واضح تكون العقوبات بين سنتين سجناً و20 ألف دينار خطية (غرامة) مالية، مضيفا أن الطرق الحديثة في الفحص تتضمن آلات فحص كمبيوترية متطورة توضح مكونات القطعة الذهبية بدقة، ولا تسمح للتاجر بالغش، لأنه يعرف أن أمره سيفتضح، وتحد في الوقت نفسه من المتدخلين في هذا القطاع.
تجار يعملون بطرق غير شرعية
يشتري تجار الذهب المستعمل ويبيعونه إلى صاغة يعملون في الخفاء بطرق غير شرعية، ويمتلكون أمكنة للتصنيع والطابع المزيف، وهو ما يجعل عملية الغش سهلة وفقا لتأكيد الصائغ الحبيب كريديس والذي يمتلك خبرة ممتدة في المجال تصل إلى 51 عاماً.
ويقول الصائغ كريديس لـ"العربي الجديد"، "أسباب الغش في الذهب تعود إلى غياب الإرادة في تنظيم القطاع، إذ إن أغلب الدول غيرت قوانينها بقوانين عصرية تتماشى مع تطور قطاع المصوغ"، غير أن العضو في مجلس الحرفة التابعة لقطاع المصوغ في وزارة التجارة زهير البجاوي يعيد تنامي الغش إلى السوق السوداء التي أضرت بسمعة تجار الذهب وإلى تهريب الذهب القادم من تركيا وليبيا، كونه ينافس الذهب التونسي لانخفاض أسعاره، مضيفا أن أغلب المحال تعمل بطريقة قانونية وبإشراف من وزارة المالية من خلال الطبع "التأشير"، وتمر عبر دار الضمان، لضمان جودة الذهب ولكن الذهب المغشوش يباع في المنازل، وفي محلات غير مرخصة، الأمر الذي يؤدي إلى ركود في تجارة الصاغة الشرفاء، إذ تقل أسعار الذهب المزور كثيرا عن الأصلي، وهو ما جذب الخمسينية آمال بن محمود، التي اشترت 3 أساور من سوق البركة بتونس العاصمة (أشهر وأقدم سوق لبيع الذهب تأسس في عام 1846) بقيمة ألفي دينار (822 دولارا)، غير أنها فوجئت بعد عودتها إلى فرنسا ولدى محاولة بيع الأساور أنها لم تكن من الذهب، وإنما من الحديد المطلي بالذهب.
مشاكل تعيق تطوير المهنة
تحتل تونس المرتبة 78 دوليا و13 عربيا من حيث احتياطي الذهب بكمية 6.8 أطنان، بحسب بيانات مجلس الذهب العالمي الصادرة في 16 فبراير/شباط 2018 ويضم قطاع الذهب في تونس 6 آلاف تاجر و7 آلاف محل، ويتولى 400 مهني (صائغ يحمل ترخيصا بشراء الذهب من البنك المركزي وبيعه للتجار) تسلم الذهب الخام من البنك المركزي، ويقومون بتوزيعه على الحرفيين لتصنيعه، وتقدّر حصة كل صائغي الذهب ما بين 70 و100 غرام من الذهب شهريا في الوقت الحالي، بدل من 250 غراما في السابق بحسب تصريح الناطق الرسمي للمجمع المهني للمصوغ (غير حكومي)، محمد السقا لـ"العربي الجديد"، والذي قال: "تستهلك سوق المصوغ عادة ما بين 2 طن و2.5 طن سنويا من الذهب، ولكن الدولة التونسية حددت حجم الكمية التي يمكن استعمالها بـ 600 كيلوغرام في ظل تراجع مدخرات العملة الصعبة ويتولى البنك المركزي التونسي توريد الذهب، ويمكن تكليف مؤسسات تابعة للدولة أو هياكل أخرى رسمية لتوريد الذهب بمقتضى أمر، في الوقت الذي ينادي المشرفون على الذهب بتحرير القطاع والسماح بتوريد الذهب عبر القطاع الخاص لتجاوز الإشكاليات التي كبلت السوق وساهمت في تنامي ظاهرة التهريب".
وأمام النقص في الكميات يلجأ المهنيون إلى المصوغ المستعمل، والقديم لتعويض النقص في الكميات، ما أدى إلى حصول تجاوزات، كما يقول السقا، مضيفا أن جوهر الفساد موجود في القانون 17 لسنة 2005 المتعلق بالمعادن النفيسة، بسبب إشكاليات قانونية تعيق تطور المهنة، إذ يكبل القانون القطاع، ولا يمكّن التجار من اقتناء الكميات التي يحتاجونها من الذهب، وهو ما يوضحه سليم عربودي التاجر في سوق البركة للذهب بالقول: "إن المضايقات التي تستهدف أصحاب محلات بيع الذهب لا يمكن السكوت عنها"، مضيفا لـ"العربي الجديد" إنهم إذا اقتنوا ذهبا مستعملا، وتبين أنه مسروق يتهمون بالمشاركة في السرقة ويسجنون 6 أشهر، أو أكثر، وإذا كان الطابع غير واضح يتهمون بالغش وتزوير الطابع، ما يؤدي إلى حجز بضاعتهم وركود نشاطهم.
إجراءات تحدّ من الغش
تعد فاتورة البيع الضمانة الأكبر للمشتري ويشترط أن تحتوي على وزن المصوغ والمبلغ وعيار الذهب، بحسب زهير البجاوي، مشيرا إلى أنهم يأملون أن تصبح إجبارية، وبإمكان المشتري أن يتوجه إلى أمين السوق الذي تعينه الدولة في أسواق الذهب ليفحص الذهب، ليكشف إن كانت القطعة مغشوشة، أم لا وهي عملية تتم مجانا، وهو ما يؤكده منصف شارقة، موضحا أنه عند اكتشاف غش أو فساد في صنع الذهب، أو العمل بطابع غير مطابق للمقاييس المطلوبة، يتم سحب كامل الذهب الموجود في محل الغش، وإعادة التدقيق فيه من جديد واستبدال الطابع المزور أو المقلّد وفقا لقانون عدد 17 لسنة 2005 والخاص بالمعادن النفيسة.
وبالرغم من الوعود التي تلقاها تجار المصوغ في الآونة الأخيرة من وزارة المالية ورئاسة الحكومة بإعادة النظر في قانون 2005 ما دفعهم إلى فك إضرابهم المفتوح في ديسمبر/كانون الأول الماضي بعد 11 يوما من إيقاف عملهم، إلا أنهم يرون تلك الوعود ذراً للرماد في العيون في ظل معاناتهم من سوء تنظيم القطاع، والذي ينعكس على المستهلكين سلبا كما تقول الخمسينية بن محمود.