البحر وإعلام الفرجة

09 اغسطس 2018
+ الخط -
كنت أبحث عن أفضل طريق للتخلص من أعباء اليومي، كما أعيشه، ولأن فسحة الصيف تقدم لي سنوياً إمكانية تكسير رتابته، وذلك باقتناص لحظات غير متشابهة، أختار فيها البحر لأعانق الموج والشاطئ، بالطريقة التي تجعلني أتخلّص من عاداتٍ لها صلة مباشرة بالضجيج الإعلامي الذي يلاحقني ..
بدأت أعدّ العدة لوضع أقدامي على رمال أحد شواطئ المتوسط، وقد ساعدني في عملية الإسراع بتنفيذ خطتي في الهرب من رتابة اليومي، المزعجة والمخيفة في الآن نفسه، مؤتمر القمة الذي عقد أخيرا في هلسنكي بين الرئيسين، الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، وهو المؤتمر الذي لا أتصوَّر أن الذين تابعوه من المهتمين قد وقفوا على نتائجه الفعلية، أو تبينوا أبرز المواقف والخيارات التي انتهى إليها.
ولجت أبواب عطلتي الصيفية، محاولاً التخلُّص من كثير من عاداتي اليومية في القراءة والكتابة، فلم أعد أتابع نشرات الأخبار، ولا أراجع صفحات الرأي في الإعلام المكتوب، ولا في الإعلام المسموع والمشاهد والرقمي. كانت رجلاي قد استأنستا قليلاً بنعومة رمال الشاطئ الذي سأنعم مدة بالراحة بين مائه ورماله، حيث يتعاقب ماء الموج ورذاذه، وحيث يختلط الرمل بالماء، ليترك بين أصابع الأرجل، وعلى سطح الجلد، حَبَّاتٍ من الماء تُشعرنا مَسَامُّ الجلد بملوحتها، فنستطيب نسائمها العليلة في الصباح والمساء وعند الظهيرة، الأمر الذي يُبعد عنا الشعور بمتاهات اليومي، ورتابة السياسة الدولية، وما تمارسه اليوم علينا، من أدوار جديدة في الترويض والتنميط والخداع.
كان بإمكاني أن أجمع، في أيام عطلتي السنوية، بين مخاطبة البحر ومعانقة موجه، وأحرص، 
في الآن نفسه، على مواكبة قمة ترامب وبوتين، بمعاينة موضوعات اللقاء المذكور وأهدافه، مع عنايةٍ خاصةٍ بالقضايا العربية الكبرى، قضايا الشعب السوري وقضايا اليمن والخليج العربي، وكذلك قضايا الإرهاب وإشكالات الصراع الإقليمي في المشرق العربي، وهي قضايا متشابكة ومعقَّدة، إلا أنني فضّلت رؤية البحر والرمل والماء، على مواصلة رؤية أوجهٍ تأكدت أنها تحمل أقنعةً من طين، وتنطق بكلماتٍ من لغتين ومعانٍ متشابهة.. أوجهٌ وأجسامٌ تملك القدرة على الوقوف والجلوس، وتبادل التحايا والكلمات، من دون أن تقول شيئاً.. ولعلها ترسم الابتسامات المطلوبة على وجوهها، لترسل رسائل محدَّدة، ينتظرها المتابعون ويعرفون شفراتها، كما يقدّرون نتائجها بحسابات محدَّدة.
وأنا أواصل النظر في البحر وصور التقائه بأفقٍ لا حدود له، تذكّرت أنه قبل انعقاد قمة هلسنكي أعلن مسؤولون روس وأميركيون أنها ستعالج قضايا استراتيجية كبرى، وكأن ما يجري اليوم في العالم، لا يَدَ لروسيا والولايات المتحدة الأميركية فيه.. فكيف تعالج القمة بؤر الصراع في العالم، وهي بؤر مشتعلة بحكم التدخلات المباشرة التي يقوم بها كل منهما في هذه البؤر؟ تزاحمت أسئلة عديدة في ذهني، فازددت اقتناعاً بضرورة الهروب من مأزق فرجة القمة، بحثاً عن مكانٍ آمنٍ في شاطئ يجعل ملامسة الأفق لماء البحر، أجمل من رؤية الرئيسين في قاعات الاجتماع، وفي الصالونات المرتبطة بها في هلسنكي..
قلت لنفسي، في بداية المؤتمر، أنني أفضل رحابة البحر، وصوت الموج ورذاذه المتطاير، كما أفضل استرخاء المقبلين عليه من المشاة، ومن الذين يتمدّدون على رماله، ليستريحوا قليلاً من عناء أعمالهم طوال أشهر السنة، فالاسترخاء فوق رمال الشاطئ، والتمتع ببقايا الموج الذي يلامس بعض زوايا الجسم، أفضل وأجمل من متابعة أعمال مؤتمر تقدّم فيه معطياتٌ لا علاقة بينها وبين جدول أعماله، مؤتمر تلفق، في ندوته الصحافية في ختامه، نتائج وخلاصات مختلفة كليا عن مجمل ما دار فيه، ليركب الإعلام المُوَجَّه، بعد ذلك، المواقف ونقائضها، بصورةٍ لم يعد يخفى على أحد الأدوار التي يقوم بها، بهدف ترسيخ الصورة الجديدة لإعلام الفرجة في عالم جديد، فقد حوّلت الثورة الإعلامية المؤتمرات واللقاءات بين الرؤساء في العالم إلى فضاء للإثارة والخداع، فضاء للفرجة والتسلية، بكل ما تَتطلبه قواعدها من لعب وتنكُّر، ومن صمت وكلام.. ولهذا، قلت في نفسي البحر أحلى، ومعانقة الموج والرمال أرحم..
إذا كان العالم يعرف، منذ سنوات، حالة من الفوضى، ومن الحروب المشتعلة في مناطق عديدة، فإننا نفترض أن لقاء قمة مُماثلا لقمة هلسنكي سيكون مناسبة للتفكير في كيفيات الحدّ من ظواهر الخراب والقتل العشوائي، كما قد يكون مناسبةً لوقف بيع الأسلحة، وبذل الجهد القادر على وقف انتشار الظواهر الإرهابية، وقد تحولت اليوم، في ربوع كثيرة في العالم، إلى وباء فتَّاك. لكن لماذا أتساءل بهذه الطريقة، وقد قصدت البحر، محاولاً التخلص من تبِعات اليومي، وإعلامه الذي يلاحقني. لماذا تحول اليومي إلى كابوس خانق؟ نفضت يدي عن كل ما دار في ذهني لحظة استرخائي أمام البحر في الشاطئ، ثم غطست في الماء.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".