في مقدمة كتاب مذكرات نيكوس كازانتزاكي "تقرير إلى غريكو"، كتبت زوجته هيلين إنه اعتاد أن يقول لها: "أحسّ كأنني سأفعل ما يتحدث عنه برغسون - الذهاب إلى ناصية الشارع، ومد يدي للتسوّل من العابرين: زكاة يا إخوان. ربع ساعة من كلٍّ منكم".
كان الوقت يتسرّب من حياة الكاتب، وهو يعلم أن أيامه تنتهي في الحياة، ولكن ما كان يريده إنما هو أن يتمكن من إنهاء العمل الذي يكتبه. "آه على بعض الوقت، ما يكفي فقط لإنهاء عملي، وبعدها ليأت شيرون". وشيرون أو كيرون، بحسب الهامش الذي وضعه المترجم، هو ناقل أرواح الموتى إلى هيدس، أي إلى العالم الآخر.
أذكر أن الرحلة من المدينة إلى قريتي، وهي مسافة تقارب خمسة وعشرين كيلومتراً، كانت تستغرق في الستينيات، أكثر من ثلاثة أرباع الساعة، إذ كانت السيارة التي تقل الركاب عتيقة الطراز، مهترئة، بطيئة، وكنّا نشكو من ذلك البطء المريع، بينما كان آباؤنا يقولون لنا إنها سريعة جداً، قياساً إلى الوقت الذي كان يستغرقه الطريق من المدينة ذاتها إلى القرية، على ظهور الخيل، أو على ظهور الحمير، أو مشياً على الأقدام.
لم يكن أيّ واحد منّا يشعر أن الوقت يهرب من بين يديه
وعلى الرغم من ذلك لم يكن أيّ واحد من بيننا يشعر أن الوقت يهرب من بين يديه، كان لدينا كثير من الوقت، بحيث إن السيارة العتيقة لم تستطع أن تسرق منّا سوى بضع دقائق، إذ لم يكن الوقت كلّه ذا قيمة. حتى أن الكثيرين من بيننا كانوا يسخرون من أولئك الذين يلتزمون بالمواعيد، أو يلومون من يتأخر عن الحضور إلى مكان ما بعد تحديد الموعد، متذرعين بأن الوقت "ببلاش" أي لا قيمة ولا ثمن.
وإذا قارنا الحالتين، فإن لدى الروائي اليوناني فائضاً من العمل يحتاج من أجل إنجازه إلى فائض من الوقت، بينما كان لدينا، بعكسه تماماً، فائض من الوقت، ولا عمل يمكن للناس أن يملؤوا به تلك الزيادات.
لا يمكن للوقت الذي يبحث عنه الروائي أن يكون مقياساً للوقت العام بالطبع، غير أن المشاعر التي يحسّها الناس اليوم، وخاصة في السنة الأخيرة من هذا العقد، تتحدث عن خسارة الوقت، بينما لا ترى أحداً يبحث عنه، أو يطلبه. فقد دمرت الحرب فرص العمل، وتحوّل عشرات آلاف الشبّان إلى لعب البلياردو أو التهريب، أو اللا شيء، بينما ينشغل الأكبر سناً في لعب الوقت، أو فيما يسمونه "تضييع الوقت".
شيء ما في تعبير الناس عن الوقت يشبه إلى حد بعيد لوحة سلفادور دالي التي وضع فيها بضع ساعات سائلة لا ترغب في الزمن. تكسر الحروب والأنظمة المشغولة ببقائها زماننا، أو تلغيه. وما يقال عن أننا نعيش في عصر السرعة مجرّد خرافة، إنه مجرّد استعارة فقيرة تدّعي الانتماء إلى العصر. فعالمنا في هذه البلاد شديد البطء، خامل، متكاسل. والتعبير عن ضياع الوقت، هو في الحقيقة تعبير عن ضياع الأهداف.
* روائي من سورية