الأمير الصّغير، كبرْنا ولم يكبرْ

06 يناير 2015
+ الخط -
تعوّدت أن أقرأ كل سنة كتاب "الأمير الصغير" للكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبري. أودّع به سنة آفلة أو أستقبل به سنة قادمة، فهذا الكتاب ما زال يمنحني، كلّما قرأته، الكثير من الفرح، الكثير من العزاء. أجل، لقد كبرنا، لكنّ هذا الأمير لم يكبر. مرّت على ولادته أكثر من سبعين سنة، وهو لم يزل ذلك الطفل الأشقر الذي يؤوّل العالم بنباهة فائقة.. 
يذهب الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينُو في بعض مقالاته إلى أن "الخفّة"، هي موضوع الشعريّة التي تسعى إلى تخليص الحياة من ثقل المادّة، والزّمن والغياب والموت. فثمّة في نظره اتجاهان في الأدب متقابلان يحاول أحدهما جعل اللّغة بلا ثقلٍ، ترفُّ فوق الأشياء مثل غيمة، أو ربّما مثل غُبار ناعمٍ، وثانيهما يحاول إعطاءَ اللّغة كثافة وثقلاً بحيث تبدو في كثافة الأشياء وثقلها. الأدب الأوّل ما إن يلامس الكائنات والأشياء، حتّى يحوّلها إلى عناصر أثيريّة، رهيفة، شفّافة، تذوب في الفضاء كما تذوب الغيوم. وكأنّ وظيفة الأدب تتمثّل في إذكاء شوق الإنسان إلى بيته الأوّل: السّماء، لكأنّ وظيفته تتمثّل في جعل الأشياء ترقّ وتشفّ وتخفّ حتّى تنفصل عن الأرض وترتفع بعيدًا في الفضاء. أمّا الأدب الثاني فهو أدبٌ أرضي، كلّ صوره ورموزه تحيلنا على الواقع، وتشدّنا إلى الأشياء شدّا قويّا. لكأن وظيفته تتمثّل في توكيد علاقتنا بالواقع على اختلاف صوره وتعدّد أشكاله. 
كلّ من يقرأ الأمير الصغير يلحظ، منذ أوّل وهلة، أنّ لغته هي من الصّنف الأوّل، تلك اللّغة التي ترفّ فوق الأشياء مثل غيمة أو غُبار ناعم. لغة تصنع للأشياء والكائنات رياشًا وأجنحة ثمّ تطلقها في الفضاء. اقرأ ما شئتَ من فصول الكتاب، تجدْ حشدًا من الأحداث تُحيل على معاني الانسياب والطيران والذّوبان بعيدًا في السّماء. 
فإذا تأمّلنا، شخصيّات هذه القصّة وجدناها، ذات طبيعة أثيريّة. الأمير الصغير لا يسكنُ الأرض بل المدى، يلفّعه الغمامُ. لكأنّ مملكته ليست من هذا العالم، بل من عالمٍ بعيدٍ مستترٍ وراء الغيم، لا يكادُ يظهر أو يبين. فقد جاء من الكوكب 612 - الكوكب الذي يكاد حجمه لا يتجاوز حجم بيت من البيوت - لينزل ضيفًا على الأرض. أمّا صديقه فقد كان طيارًا متمرّسًا، آثر السباحة بين الغيوم على البقاء بين البشر.
ينطلق الحديث بين هاتين الشخصيتين؛ الأمير الصغير الذي ينظر إلى العالم بعفوية ساحرة، والطيار الذي ينتسب إلى العصور الحديثة حاملًا ثقافتها. في فصول من الأدب الرفيع، يعمد الأمير إلى محاكمة الإنسان الحديث الذي فقد القدرة على الحلم والطيران بعيدًا في الأقاصي. هذا "الإنسان الأجوف"، على حدّ تعبير إليوت، فقد الإحساس بالدهشة، وبات يرى العالم بعينين باردتين فقدتا نار الفضول من زمن بعيد". 
ومن أقواله الجميلة: "إن الأزهار ضعيفة البنية، ساذجة الطبع. تعمل على طمأنة نفسها قدر استطاعتها، فإذا تسلّحت بالأشواك حسبت أنّها تبعث الرعب في القلوب".
"للناس نجومٌ يختلف بعضها عن البعض الآخر، فمن الناس من يسافر فتكون النجوم مرشدات له، ومن الناس من لا يرى في النجوم الا أضواء ضئيلة، ومنهم من يكون عالِمًا، فتكون النجوم قضايا رياضية يحاول حلّها، ومنهم من يحسب النجوم ذهبًا. وهذه النجوم على اختلافها، تبقى صامتة. أمّا أنت، فيكون لك نجوم لم تكن لأحد من الناس".
"وإذا قلت للكبار: "رأيت بيتاً جميلاً مبنياً بالقرميد الأحمر وعلى نوافذه الرياحين وعلى سطحه الحمائم"، عجزوا عن تمثّل ذلك البيت، فإذا أردت الإيضاح وجب عليك أن تقول "رأيت بيتاً قيمته ألف دينار"، فيصيحون قائلين: "ما أجمل هذا البيت!".
"لا نبصر جيدًا إلا بالقلب، والشيء المهمّ لا تراه الأعين".
"الراشدون غريبو الأطوار حقّا".
"ينبغي البحث بالقلب".
هذه العباراتُ لا تُحيل على كائنات وأشياء رهيفة هشّة فحسب، بل تحيل أيضًا على معنى الحركة والارتفاع والتّلاشي في ضباب الأقاصي. لكأنّ لغة إكزوبري لا تسعى، إلا إلى إذَابة صلابة الواقع والانتصار على خشونة المادّة، وتحويل كلّ شيء إلى أجنحةٍ ورفيف أجنحة.
عَالَم إكزوبري، كما صوّرته الرواية، عالمٌ سماويٌّ لا يمكن للمرء أن يبلغه إلاّ إذا حوّل يديه إلى جناحين كبيرين يطير بهما إلى السّماء. في هذا العالم يتآخى المرءُ مع الكواكب والرّياح والغيوم، حتّى ليصبحَ إذا أخذنا برموز "منطق الطير"، عين الأشياء التي يراها.
يقول كالفينُو: أعتقد أنّ عليّ أن أطيرَ في فضاءٍ مختلفٍ، كلّما بدت الإنسانيّة محكومًا عليها بالثّقل، ولا أعني بهذا أنّ عليّ أن أهربَ في الأحلام، أو فيما هو لاعقلانيّ، بل أعني أن عليَّ أنْ أغيّر مقاربتي للعالم، أن أنظر إليه من زاويّة مختلفة، ومنطقٍ مختلف.
ألا يمكن أن ينسبَ هذا الكلام أيضًا إلى إكزوبري، لتعليل الأحداث والحكم التي تَوَاتَرَتْ تواتُرًا دَالّاً في فصوله الأثيريّة.
إنّ إكزوبري قد اختار، هو أيضًا، أن ينظر إلى العالم من زاوية مختلفة ومنظور مختلف، وإذا أردنا الدّقّة قلنا إنّه اختار أن ينظر إلى العالم بعيني طائر يحلّق في السّماء حتّى يرى من الأشياء ما لم نر، ويسمع من الأصوات ما لم نسمع.
فليس غريبًا بعد كلّ هذا أن تتحوّل قراءتنا لهذا الكتاب إلى ضربٍ من التحليق، إلى ضربٍ من الطيران.
المساهمون