الأزمة المقدونية ومخاوف تجدّد البلقنة
اقتحمت مجموعة مسلّحة مدينة كومانوفو، ذات الأغلبية المسلمة والواقعة في شمال مقدونيا، واندلعت حرب صغيرة في 16 مايو/ أيار الماضي، بين المجموعة المسلّحة البالغ عددها قرابة 70 رجلا وقوات الأمن المقدونية استمرّت نحو 24 ساعة، راح ضحيتها ثمانية من رجال جهاز الأمن، وعشرة من رجال الجماعة المسلّحة وثمانية مواطنين مدنيين. أعلنت المجموعة المسلّحة عن نفسها بأنّها جزء من "جيش تحرير كوسوفو" المطالب بضمّ مناطق حدودية لكوسوفو، لكنّ حكومة كوسوفو وألبانيا أنكرت تورّطها في هذه العملية، وطالبتا بضبط النفس وعدم تصعيد المواجهات الدامية. وكان من الممكن تفادي هذه المأساة، لو تمّ التعامل بمهنية مع التقرير الاستخباراتي، الذي رفع لوزارة داخلية حكومة كوسوفو، لكنّ سوء التنسيق بين رئيس الوزراء، عيسى مصطفى، والرئيس، عاطفيتي جاهجاجا، أدّى إلى حدوث المأساة المذكورة.
سبق هذه الأحداث تسريب لتسجيل أجراه ساشو ميالكوف، ابن عم رئيس الوزراء المقدوني، نيكولا غروئفسكي ورئيس جهاز الاستخبارات الوطني، طالب فيه بإخفاء أدلّة بشأن مقتل طالب معارض من رجل أمن في عام 2011، وتوريط مواطن عادي في عملية القتل. وقام بعملية التسريب، قبل أيام، زعيم المعارضة المقدوني، زوران زائف، مما أدّى، لاحقًا، إلى اندلاع مظاهرات ومسيرات، تطالب باستقالة حكومة غروئفسكي، والتي يعتبرها كثيرون فاسدة، أغرقت البلاد بديون كبيرة. وطال الفساد الأجهزة الإدارية، حيث تمّ توظيف أبناء العمومة والمقرّبين والموالين لغروئفسكي في المناصب الحسّاسة في البلاد.
للمرّة الأولى، منذ سنوات طويلة، تجد مقدونيا نفسها مركزًا للحدث، ومحطّ أنظار وسائل الإعلام العالمية، نتيجة للأزمة السياسية التي اندلعت في البلاد، وحاولت حكومة غروئفسكي جاهدة تحويل الأنظار عن العملية المذكورة من دون طائل، حيث طال الغموض القتال الذي شهدته مدينة كومانوفو، وهناك أنباء كثيرة عن أنّ حكومة غروئفسكي وأجهزته الأمنية هي التي رتّبت لعملية كومانوفو، لتحويل الأنظار عن الأزمة السياسية في البلاد، خصوصاً وأنّ الأوضاع في الإقليم تسمح بذلك، نتيجة ارتفاع أعداد اللاجئين غير الشرعيين، وإمكانية توجيه التهم وتلفيقها لتنظيم "داعش" وأنصاره في كوسوفو وألبانيا. لكنّ مخطّط غروئفسكي فشل، على ما يبدو، وعاد التركيز على الصراع القائم بين الحكومة الفاسدة والمعارضة المطالبة باستقالة غروئفسكي، وخرج قرابة 20 ألف مواطن في مظاهرة كبيرة وسط العاصمة سكوبي، مطالبين باستقالة رئيس الوزراء، المصرّ على البقاء في مركزه، ويشير خبراء إلى مخاوف رئيس الوزراء من التنكيل، الأمر الذي حثّه على التشبّث بهذا المنصب أطول وقتٍ ممكن. ليس هذا فحسب، بل سارع إلى تنظيم مظاهرات مضادّة من أنصاره لدعم سلطته في البلاد.
ووصفت مجلة "إيكونوميست" البريطانية رئيس الوزراء المقدوني منذ عام 2006 بأنّه فاسد، ولا يملك أية نوازع أخلاقية، ومكيافيللي النزعة، وعدوّ لدود للصحافة الحرّة، ويتبع أفكار ونصائح نيقولو مكيافيللي بدقّة، ولا توجد لديه أيّة رغبة أو نيات بالتنازل عن السلطة.
ضغوط غربية تطالب باستقالة غروئفسكي
على خلفية المظاهرات والأزمة السياسية في مقدونيا، يطالب سفراء الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية في سكوبي من رئيس الوزراء الالتزام بالقيم الديمقراطية، التي يقسم بها أمام المجتمع المقدوني. ويتحمّل الزعيم المقدوني على عاتقه الحفاظ على السلام الهشّ بين الإثنيات والطوائف المختلفة في البلاد، وخصوصاً الأقلية الألبانية التي تمكّنت من المشاركة في السلطة منذ 14 عامًا.
فشل غروئفسكي في إشعال فتيل الفتنة الإثنية والطائفية، ولو نجح مخططه في كومانوفو لاشتعل الإقليم في صراعاتٍ لا يعرف مآلها سوى الله. واضطرت فرق من جيوش دول الجوار والاستخبارات العسكرية لمراقبة الحدود المشتركة مع مقدونيا على مدار الساعة، لتفادي تسلّل لاجئين وإرهابيين، علمًا بأنّ غروئفسكي فشل، حتّى اللحظة، في ضمّ بلاده إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي الذي يشترط على أيّة دولة ترغب بالترشّح لعضويتها توقيع معاهدات حسن جوار تشمل عدم المطالبة بأراضٍ حدوديّة، وخلاف ذلك، لا يمكن قبول عضوية دول جديدة للمنظومة الأوروبية.
بدا من الواضح أنّ الصراع في سكوبي متركّز على السلطة، وينازع زوران زائف (44 عاما)، زعيم المعارضة في مقدونيا، رئيس الوزراء على السلطة منذ سنوات، ولا يتوقّف زائف عن بثّ الأشرطة والتسجيلات التي تدين وزراء حكومة غروئفسكي، وتثبت تورّطهم بالفساد على كل الأصعدة والقطاعات الحيوية في البلاد، في الوقت الذي يرفض فيه غروئفسكي هذه الاتهامات، معتبرًا التسجيلات مفبركة وغير حقيقية.
وقد قاطع زوران زائف، زعيم الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي المقدوني المعارض، هو ونوّابه، أعمال البرلمان المقدوني منذ قرابة السنة، معتبرًا نفسه المخلّص للشعب المقدوني، وأعلن أنّه لن يتوقّف عن محاربة السلطة حتى سقوط الحكومة.
ويتهم أنصار غروئفسكي بدورهم زعيم المعارضة بأنّه دمية يحرّكها القادة الأميركيون، وخصوصاً مهندس الثورات الملوّنة، جورج سوروس. وللمرّة الأولى، يتمّ الحديث عن ربط الأزمة بمشروع نقل الغاز الروسي إلى أوروبا "الدفق التركي"، ومقدونيا إحدى الدول المعنية بمرور هذا الخطّ الحيويّ، بمباركة رئيس الوزراء غروئفسكي، الأمر الذي لا يروق للتحالف الأميركي في إقليم البلقان، ومن ضمنهم زعيم المعارضة السياسية في مقدونيا، زوران زائف.
مظاهرات ومظاهرات مضادّة
حشدت المعارضة المقدونية عشرات الآلاف في شوارع العاصمة سكوبي، ومن المتوقّع أن تُرفع خيم مؤقّتة للاعتصام حتّى استقالة غروئفسكي، لكن رئيس الوزراء تعلّم من التجارب التي مرّت بها دول أوروبا الشرقية، ويعرف جيدًا أبعاد هذه الممارسات، وهي ليست جديدة، وباتت مستهلكة في دول الإقليم، ويمكن فقط لأصحاب القلوب الضعيفة الخضوع لهذه الضغوط، والتنحّي عن السلطة. لذا، سارع غروئفسكي إلى تنظيم مظاهرات مضادّة جابت شوارع العاصمة، رافضًا الخضوع لمطالب غريمه زائف. وبدأت الحافلات تنقل المواطنين إلى ساحات سكوبي وشوارعها لتحشيدهم تأييدًا لرئيس الوزراء. وشاركت مؤسسات أوروبية في هذه التظاهرات، وتمّ تشبيه أحداث مقدونيا بالتي شهدتها أوكرانيا. وفي هذا السياق، شارك سيرغي ستانيشيف، زعيم الاشتراكية الأوروبية في تظاهرة زعيم المعارضة زائف، وطالب باستقالة عاجلة لرئيس الوزراء غروئفسكي، مما اعتبره أنصار الأخير تدخّلا في الشؤون الداخلية للبلاد.
ليس الفساد أمراً جديداً في هذا الإقليم، وزائف نفسه متّهم كذلك بالتورّط في الفساد. وتعود أسباب تفشّيه إلى ضعف آليات الرقابة أو انعدامها، وهناك تماد لا يخفى على أحد، كمحاولة شراء سيّارة مصفّحة خاصّة لرئيس الوزراء، نيكولا غروئفسكي، بقيمة 300 ألف يورو لاستخدامه الخاص، متذرّعًا باحتياجات رئاسة الوزراء، وما إلى ذلك من أوجه الترف والبذخ في دولة فتيّة، ما يزال اقتصادها يعاني من قصور النمو والتطوّر.
"الناتو" يلوّح بإصبعه مهدّدًا
حثّ ينس ستولتنبرغ، السكرتير العام لحلف الناتو، مقدونيا على تجنّب تصعيد العنف والتوتّر في المرحلة المقبلة، وقال إنّ الناتو يراقب عن قرب الأحداث الدائرة في مقدونيا. كانت هذه أولى تصريحات ستولتنبرغ، لدى وصوله إلى بروكسل قبل أيام، للمشاركة في مجلس الاتحاد الأوروبي، وأضاف إنّ مقدونيا تنتظر الموافقة على انضمامها لحلف الناتو، ولدى الحلف ممثلية في سكوبي، وتمنّى أن تكون المظاهرات السلمية جزءًا من الأعراف الديمقراطية في المجتمع المقدوني. وأكّد ستولتنبرغ على ضرورة تجنّب تصعيد العنف، وحثّ كذلك على تطوير المؤسسات الديمقراطية في البلاد، وطالب بإنهاء الأزمة، وعدم الذهاب بعيدًا في الصراع المندلع في مقدونيا، وترجيح كفّة القانون.
في سياق متّصل، ذكر تقرير للاستخبارات الأميركية أنّ استمرار دعم الولايات المتّحدة غير المشروط للألبان، بعد عملية كومانوفو، وعدم ردّ الاتحاد الأوروبي على الدعوات المطالبة بإعلان دولة "ألبانيا العظمى"، قد يؤدّي، في نهاية المطاف، إلى تشكيل "تحالف أرثوذوكسي أوروبي في البلقان". وحذّر التقرير من تحوّل الدول الأوروبية الأرثوذوكسية إلى روسيا، وتوطيد العلاقة مع موسكو، إذا استمرّ الدعم الأميركي لألبانيا، وفقًا لما نشرته الصحيفة الصربية "Inserbia". وتقترح وكالة الاستخبارات الأميركية على البيت الأبيض اعتماد سياسة أكثر توازنًا في إقليم البلقان، كما توقّع الخبراء المهتمّون بشؤون البلقان إمكانية تشكيل تحالف مسيحي أرثوذوكسي يجمع بين صربيا وبلغاريا واليونان ومقدونيا، وهي الدول الرئيسية المتضرّرة من مشروع إقامة دولة ألبانيا العظمى، حال الشروع بتنفيذ هذا المخطّط. ولن تقف الدول المذكورة مكتوفة الأيدي حيال ذلك، وتشهد الحروب الأهلية التاريخية في الإقليم قابلية دول البلقان لتبنّي العنف، واعتماد سياسة التهجير مجدّدًا، والتنكيل بالمدنيين عند الضرورة. ويمكن لمنطقة البلقان أن تصبح خطرة للغاية، تفوق حدّة الأحداث فيها ما يشهده الشرق الأوسط في الوقت الراهن.
وعلى الرغم من استمرار الاجتماعات المشتركة بين الأحزاب السياسية الأربعة الكبرى في مقدونيا، إلا أنّ المعارضة، بزعامة زوران زائف، وممثلي الحكومة المقدونية، لم يتمكّنوا من التوصّل إلى اتفاق نهائي بشأن الأزمة السياسية. ويصر الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي المقدوني المعارض على تشكيل حكومة خبراء انتقالية، للبدء بحوار بنّاء، بهدف إجراء انتخابات برلمانية نزيهة وشفّافة في البلاد.
وستلتقي الأحزاب المتنازعة ثانية في السادس والعشرين من مايو/أيار 2015، لكن، لا توجد مؤشّرات لتراجع المعارضة المقدونية عن مطالبها. في هذه الأثناء، رُفعت الخيم الصغيرة لمواصلة الإضراب المفتوح، وأشرفت مجموعة من النساء على تنظيم موائد ميدانية، لإطعام المضربين في الساحة الرئيسية في العاصمة سكوبي. وفي مناطق ليست بعيدة عن وسط سكوبي، نظّمت مظاهرات حكومية مضادّة، ردًا على تصعيد المعارضة المقدونية.
تبدو الأمور متشابكة في شبه جزيرة البلقان، حيث الأقليات المتعدّدة، المتضاربة في مصالحها وولاءاتها. ومن السهل ارتفاع معدّلات التوتّر والتأهّب، ليبلغ حدّ المواجهة الدمويّة، كما حدث في مدينة كومانوفو في شمال البلاد. ولولا التدخّل العاجل لأصحاب القرار في دول الجوار، لأغرقت المدينة الصغيرة بالدماء، وانتهى الأمر بمقتل عشرات. انتقل الصراع إلى العاصمة سكوبي بحلّة سياسيّة، بلغ صداها أروقة البرلمان الأوروبي في بروكسل وستراسبورغ، وقادة حلف الناتو والأجهزة الاستخباراتية على الحدود المشتركة مع مقدونيا، ويعكف حاليًا البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ على مناقشة الأزمة المقدونية، بحضور رئيس الوزراء، نيكولا غروئفسكي، وزعيم المعارضة، زوران زائف. وقد صرح ريتشارد خوفيت، المفوّض الأوروبي مسؤول ملف الأزمة المقدونية أنّ بروكسل تدرس كل الاحتمالات الممكنة، لإيجاد مخرج لهذه الأزمة، بما في ذلك تشكيل حكومة خبراء انتقالية، لكنّه رفض الكشف عن تفاصيل اللقاء مع كلا الطرفين. وقال الرئيس الألباني، بويار نيشاني، إنّ هناك من يحاول العبث بأمن مقدونيا وهدم الجسور بين الأقلية الألبانية والمقدونية، والبقية تأتي، ما دام خلط الأوراق السياسية الإقليمية متواصل في دول شبه جزيرة البلقان.