هذا الاستفتاء الذي يحق لنحو 1.4 مليون موريتاني المشاركة فيه، تتجه التوقعات لأن يخرج بإقرار التعديلات الدستورية، التي تُعتبر نهائية إذا نالت الأغلبية البسيطة (50 في المائة زائداً 1) من الأصوات، فيما يُتوقَّع أن تعلن النتائج الرسمية بداية الأسبوع المقبل.
حوار جزئي
الاستفتاء الذي يجري اليوم يأتي تنفيذاً لتوصيات الحوار الذي عُقد في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2016، وهو حوار جزئي جاء بعد سنتين من مساعي إطلاق حوار بين الأغلبية والمعارضة، غير أن تلك المحاولات فشلت، لينطلق الحوار بـ"من حضر" من المعارضة. فشاركت أحزاب "الوئام الديمقراطي" بزعامة بيجل ولد وهميد وهو سياسي مخضرم ووزير سابق، كما حضر حزب "التحالف الشعبي التقدمي" برئاسة مسعود ولد بلخير، رئيس البرلمان السابق والزعيم التاريخي لـ"الأرقاء" السابقين، فضلاً عن أحزاب صغيرة أخرى خرجت من رحم أحزاب المعارضة التقليدية المنضوية تحت "المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة".
أسفر هذا الحوار عن جملة من التوصيات، كان أبرزها إجراء تعديل دستوري على دستور 20 يوليو/تموز 1991، وأصدرت الحكومة مشروع قانون بالتعديلات الدستورية، يقضي بحل مجلس الشيوخ والإبقاء على غرفة واحدة هي الجمعية الوطنية (البرلمان) وإنشاء مجالس مناطقية مكلّفة بالتنمية في الولايات الداخلية. كما يقترح مشروع التعديل الدستوري تغيير العلم الوطني ودمج مؤسستي وسيط الجمهورية والمجلس الإسلامي الأعلى، إضافة إلى دسترة مجلس الفتوى والمظالم، وإلغاء محكمة العدل السامية المكلفة بمحاكمة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وكبار المسؤولين واستبدالها بمحكمة خاصة.
عُرض مشروع التعديل الدستوري على الجمعية الوطنية فأجازته بأغلبية ساحقة، ثم عُرض على مجلس الشيوخ الذي رفضه بأغلبية أعضائه في 18 مارس/آذار 2017. لكن في 23 مارس أكد الرئيس الموريتاني المضي قدماً في إقرار التعديلات الدستورية من خلال الدعوة إلى استفتاء عام، استناداً إلى المادة 38 من الدستور، التي تنص على أن لرئيس الجمهورية الحق في "استفتاء الشعب في أي قضية وطنية هامة"، وهو أثار جدلاً قانونياً بشأن دستورية الدعوة إلى الاستفتاء وفق المادة 38، إذ إن المواد الدستورية التي تطرقت لطريقة إقرار أي تعديل دستوري تنص على عرضه على غرفتي البرلمان أولاً قبل طرحه للاستفتاء العام.
الشرعية والمشروع
الجدل بشأن التعديل الدستوري في موريتانيا شمل طبيعة المواد التي تم اقتراح تعديلها، خصوصاً تغيير العلم الوطني بإضافة خطين أحمرين أعلاه وأسفله "تكريماً للشهداء" إبان معركة الاستقلال. كما نصّ التعديل الدستوري على إلغاء مجلس الشيوخ (الغرفة الأولى في البرلمان) واستبداله بمجالس مكلفة بالتنمية المحلية، إضافة إلى دمج عدد من المؤسسات الدستورية.
وعلى الرغم من عدم وضوح أهداف النظام من التعديلات الدستورية الحالية ومصلحته منها، فإن الإصرار على إقرارها جاء لإثبات "هيبة النظام" ومنعاً لسقوط خياراته ومشروعه السياسي وتفكك الأغلبية، بعدما أسقطت الأغلبية مشروع التعديلات خلال عرضه على مجلس الشيوخ في 18 مارس.
وبررت الحكومة والأغلبية الحاكمة تغيير العلم بضرورة تخليد "شهداء المقاومة" خلال مرحلة الاستعمار، وهذا الأمر جزء من الصراع بين بعض الجهات والمرجعيات الدينية الموريتانية حول ما حدث خلال مرحلة الاستقلال عن فرنسا عام 1960. وتعتبر بعض الولايات والمرجعيات في الولايات الشمالية أن الولايات الجنوبية تحالفت مع الفرنسيين وأسست الدولة على أسس فرنسية وهو ما ينبغي تصحيحه خلال المرحلة الحالية، وهو ما أكده الرئيس الموريتاني (المنحدر من الشمال) أكثر من مرة عبر دعوته إلى تغيير العلم والنشيد الوطنيين وإجراء تعديلات جديدة على الدستور غير التعديلات المعروضة حالياً على الاستفتاء "حتى يكون الدستور الموريتاني خالياً من تأثير الاستعمار".
أما مقترح إلغاء مجلس الشيوخ واستبداله بمجالس مناطقية، فكان مثار جدل واسع نظراً إلى أن مجلس الشيوخ هو الغرفة الأولى في البرلمان ولا يحق لرئيس الجمهورية حلّه بخلاف الجمعية الوطنية. كما أن رئيس مجلس الشيوخ يقوم بمهام رئيس الجمهورية مؤقتاً إذا تعذر على الأخير ممارسة مهامه وفقاً للدستور. أما المجالس المناطقية المقترحة، فلم يُكشف بعد عن مهامها وصلاحياتها، فيما تحدثت المعارضة عن مخاوف بشأن تعزيزها للمناطقية، في ظل دعوات من قوى لمنح حكم ذاتي لبعض الولايات.
ومن المتوقع إقرار التعديلات الدستورية الحالية، نظراً إلى مقاطعة المعارضة وتدخّل الدولة في كافة المؤسسات لضمان إقرارها، على الرغم من رفضها من مجلس الشيوخ سابقاً. كما أن التعديلات الحالية وعلى الرغم من حجم المعارضة لها والصخب الذي واكب مختلف مراحل عرضها وصولاً إلى الاستفتاء، لا تتعلق بمسائل جوهرية في الدستور ولا تمس طبيعة النظام السياسي والمواد المتعلقة بولاية رئيس الجمهورية، وهي بنظر الحكومة "حزمة إصلاحات دستورية" لتحقيق التنمية وتعزيز الديمقراطية.
تصعيد المعارضة
قوى المعارضة الموريتانية الرئيسية باستثناء حزبي "الوئام" و"التحالف الشعبي"، عارضت التعديلات الدستورية وكافة مخرجات حوار أكتوبر 2016، ووصفت التعديل بأنه "انقلاب على الدستور". وفي 7 يوليو/تموز الماضي شكّلت المعارضة الموريتانية جبهة واسعة للوقوف في وجه التعديلات الدستورية، ضمّت إلى جانب "المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة"، الذي ينضوي في صفوفه 13 حزباً ومنظمة سياسية ومدنية، كلاً من حزب "تكتل القوى الديمقراطية" برئاسة الزعيم التاريخي للمعارضة الموريتانية أحمد ولد داداه، إضافة إلى حزبي "الصواب" و"الوطن" (قوميون عرب) وحزب "القوى التقدمية للتغيير" و"مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية" (إيرا) المناهضة للعبودية.
ودخلت التنسيقية الجديدة للمعارضة في سلسلة أنشطة جماهيرية وتظاهرات لـ"إسقاط" التعديلات الدستورية، واشتبكت مع الشرطة خلال الأيام الماضية، ما أدى إلى عدد من الإصابات وحالات الإغماء، وسط احتكاكات واسعة بين الشرطة والمتظاهرين في نواكشوط ونواذيبو. ودخل مجلس الشيوخ الموريتاني على خط المعارضة المناهضة للتعديلات، وشكّل في 6 يونيو/حزيران الماضي لجنة للتحقيق في صفقات التراضي ومصادر تمويل هيئة خيرية يرأسها نجل الرئيس محمد ولد عبد العزيز. كما راسل المجلس لجنة الانتخابات مطالباً بإلغاء الاستفتاء الدستوري نظراً لمخالفات قانونية شابت مرسوم الدعوة إلى الاستفتاء العام.
هاجس الخارج
كشفت تسريبات أخيرة يُعتقد أن جهة أمنية مسؤولة عنها، عن علاقة رجل الأعمال الموريتاني المقيم في المغرب محمد ولد بوعماتو، بـ"تمويل" و"تحريض" مجلس الشيوخ لرفض التعديل الدستوري الأخير، إضافة إلى تمويل الأنشطة المعارضة للنظام، والتي يقوم بها "المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة"، أبرز كتلة معارضة للرئيس ولد عبد العزيز. التسريبات كانت مراسلات صوتية عبر تطبيق "واتساب" بين عضو مجلس الشيوخ محمد ولد غده، وبين ولد بوعماتو ومدير مكتبه محمد ولد الدباغ، وتم أخذها من هاتف ولد غده بعد اعتقاله إثر حادث سير أدى إلى قتله سيدة. وكشفت صحيفة "الأخبار إنفو" الموريتانية في 26 يوليو/تموز الماضي عن وجود خطط حكومية لإصدار مذكرة اعتقال دولية بحق ولد بوعماتو واتهامه بتهديد أمن الدولة وتمويل عمليات لزعزعة استقرار البلد.
ويرتبط ولد بوعماتو بعلاقة قرابة بالرئيس محمد ولد عبد العزيز، وقد دعمه بقوة إثر انقلابه عام 2008، غير أن خلافات غامضة نشبت بين الرجلين أدت إلى فرض قيود على أعماله التجارية وفرض ضرائب على استثماراته قبل أن ينتقل ولد بوعماتو إلى مدينة مراكش المغربية ويقوم بتصفية غالبية استثماراته في موريتانيا. ويعيد مراقبون تدهور العلاقات بين نواكشوط والرباط المستمر منذ ست سنوات، إلى استضافة المغرب لرجل الأعمال المعارض، إضافة إلى رجل أعمال آخر هو المصطفى ولد الإمام الشافعي، المعروف بمناهضته للنظام الموريتاني. ووفق ما كشفته التسريبات، فقد أسس ولد بوعماتو بمساعدة عضو مجلس الشيوخ محمد ولد غده، "نواة صلبة" داخل مجلس الشيوخ بهدف إسقاط التعديلات الدستورية وتشجيع الشيوخ داخل الأغلبية على التصويت ضدها خلال عرضها عليهم في 18 مارس/آذار الماضي. كما كشفت التسريبات عن تكفّل ولد بوعماتو بتمويل العديد من الأنشطة الجماهيرية التي نظّمها "المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة".
صراع ما بعد 2019
تزامن الإعلان عن التعديل الدستوري مع نفي الرئيس الموريتاني بشكل واضح رغبته في تغيير المواد الدستورية بما يسمح له بالبقاء في السلطة لولاية ثالثة، غير أن دعوات بقائه في السلطة بعد انتهاء ولايته الحالية تجدّدت مع طرح التعديل الدستوري للاستفتاء العام، من قبل رئيس الوزراء ورئيس الحزب الحاكم وكبار المسؤولين. وتنص المادة 26 من الدستور الموريتاني على أنه "ينُتخب رئيس الجمهورية لمدة خمس سنوات عن طريق الاقتراع العام المباشر"، فيما تقول المادة 28 إنه "يمكن إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمرة واحدة". كذلك يحظّر الدستور الموريتاني على الرئيس تقديم دعم مباشر أو غير مباشر لأي مبادرة لتغيير المواد المتعلقة بمدة ولاية الرئيس. وتبدو الأحداث السياسية في موريتانيا منذ انتخابات 2014 وما تبع ذلك من محاولات إطلاق حوار مروراً بالحوار الجزئي في أكتوبر 2016، مرتبطة بالولاية الثالثة لولد عبد العزيز، فالجنرال السابق صرح أكثر من مرة عن مسؤوليته المباشرة عن انقلابَي 2005 و2008 وأن نظامه باقٍ في السلطة حتى بعد انتهاء ولايته الحالية.
في 23 فبراير/شباط الماضي، جدد ولد عبد العزيز خلال مقابلة مع قناة فرنسية موقفه بشأن عدم ترشحه مرة أخرى للرئاسة التزاماً بالدستور، غير أنه شدد على أنه لن يكون بعيداً عن أجواء السلطة ما بعد 2019 وأنه "سيدعم شخصية أخرى للرئاسة كمواطن موريتاني ومسؤول عن أمور البلد، وبالتالي لا يمكن لي أن أكون غير مسؤول عما يحصل في البلد، أو غير معني به. إذا لم أقم بدعم شخص لديه القدرة على قيادة البلد، أصبح غير موريتاني".
عاد ولد عبد العزيز خلال لقاءات جماهيرية عقدها في ولايات موريتانية خلال الحملة الدعائية للاستفتاء الدستوري، للتلميح إلى بقائه في السلطة، إذ أكد في خطاب في مدينة لعيون في 25 يوليو/تموز الماضي أن "القيادة والنظام باقيان"، متحدثاً عن ضرورة إجراء مزيد من التعديلات الدستورية لتنقيح الدستور من المواد الموروثة عن الاستعمار. ولكن قبل أيام من موعد الاستفتاء وإثر تصاعد الصدامات بين الشرطة والمعارضة، عاد ولد عبد العزيز إلى موقفه بشأن عدم المساس بالمواد الدستورية المتعلقة بولاية رئيس الجمهورية.
هذا التضارب أرجعه مراقبون إلى تمسك ولد عبد العزيز بمطلب الولاية الثالثة "تكتيكياً" للاحتفاظ بسلطته ومكانته تحضيراً لمرحلة ما بعد 2019 بعد أن بدأ التصدع في الأغلبية الحاكمة وخروج مجلس الشيوخ عن سيطرة الرئيس وإسقاطه التعديلات الدستورية في سابقة غير معهودة في تاريخ العلاقة بين نواب الأغلبية والرئيس.
من هنا يبدو التمسك بالولاية الثالثة جزءاً من سياسة النظام للاحتفاظ بأغلبيته ونفوذه السياسي، وحتى يُظهر لزعماء القبائل أن مصالحهم مرتبطة بدعمه والوقوف إلى جانبه، ما يعني رغبة النظام في ترسيخ نفوذه وسلطته داخل مختلف المؤسسات تحضيراً لما بعد 2019.