استعارة برنس أزمور لنهارين

01 ابريل 2015
عبد الكريم الأزهر / المغرب
+ الخط -

ما إن نزلنا في مطار الدار البيضاء، حتى تغيّر إيقاع الحياة والموسيقى والخطوات وأبواق السيارات والرغبات ومواعيد النوم، وصار منحازاً للهدوء الذي يجعلك تتذوق ثوانيك ودقائقك. كانت هذه ملاحظة مشتركة بيني وبين صديقي المصور دحو فروج، قلت له: "هل يمكنك أن تضبط آلتك على هذا الإيقاع؟". لاحظت ونحن نعود بعد أسبوع أن ألبومه لم يحتضن إلا صوراً غارقة في الهدوء: وجوهاً وأبواباً وأماكن وقناديل ونباتات وطيوراً.

كان الربيع يطوقنا بمفرداته أنّى توجهت العيون، بالموازاة مع مفردات الخراب التي كانت ترسلها "داعش" عبر الفضائيات. بكت ثلة من الشعراء وهي تستقبل الشاعر العراقي دريد شاروط. كانت تبكي فيه تاريخاً إنسانياً بات يُحطم أمام أنظار عالم تصالح مع قواميس الخراب. بالمناسبة: لماذا توحدت اللغات في نطق "داعش" واختلفت في نطق "خرابها"؟

تتموقع مدينة أزمور بين المحيط الأطلسي ونهر أم الربيع. ومثل زيتونة برية، حيث أخذت اسمها بالأمازيغية، لا تعطيك انطباعاً بأنها تفضّل أحدهما على الآخر، أو تفضل ملمحاً منها على بقية ملامحها الثرية. روح أمازيغية بملامح برتغالية. لماذا تقل الدراسات والمواد الفنية عن المدن الأمازيغية المغاربية التي حاورت/ حاربت أوروبا عبر التاريخ؟

يعتقد الناس هنا أن مدينتهم كانت حاضرة مشعة بالعلوم والفنون حين كانت فاس قرية، ولا يجدون حرجاً، رغم ذوبانهم التام في خيارات المغرب المعاصر، في القول إنها تدفع ضريبة كونها كانت مستقلة ذاتياً عن مملكة فاس في القرن الخامس عشر. وهو القرن نفسه الذي شهد دخولها تحت السلطة البرتغالية، حيث كانت تدفع الجزية للملك مانويل الأول.

جرّبت وأنا أنخرط في الأزقة القديمة والحديثة مقولة "لا يمكنك أن تضيع وأنت في أزمور"، إذ لم أحتج إلى أن أسأل عن طرقي التي كانت كلها تؤدي إلى روح واحدة: روح التعايش بين الحضارات الفينيقية والعربية والأمازيغية والأوروبية، وهي روح تشرف على استمرارها في المكان والإنسان المؤسسات الدينية نفسها. ما أكثر الجوامع والزوايا في أزمور!

سألت فقيهاً في الزاوية العيساوية (أسّسها سيدي محمد بنعيسى المتوفى عام 932 هجرية بمكناس) عن الهوية الفقهية للمغرب، فقال إن المغاربة مُجمعون في الفقه على مذهب الإمام مالك، وفي التصوف على طريقة الجنيد السالك، وإن جميع المنظومات متكاملة في تكريس هذه الهوية التي تتجلى أكثر في المناسبات العامة التي يلبس فيها حتى العلمانيون واليساريون الجبة المغربية.

من السذاجة أن نسأل عن الخلفية التي جعلت أزمور تحتفي بالفنون التشكيلية، احتفاء يظهر في مهرجانها الدولي الذي بات يستقطب رسامين بارزين من العالم، وفي جدارياتها التي أنجزها تشكيليوها الشباب، ذلك أنها مدينة غارقة في الألوان على مدار الفصول، حتى أنه من الصعب أن تعرف التخوم التي تفصل بينها كما قال لي التشكيلي الشاب منير الحلو. "هل زرتَ مرسم عبد الكريم الأزهر؟" سؤال طرح عليّ أكثر من مرة بلهجة جعلتني أدرك أنه من المستغرب أن أزور المدينة ولا أفعل ذلك.

رجل يُعطيك انطباعاً بالارتياح إليه منذ الكلمة الأولى، تماماً مثلما تفعل لوحاته الضاجة بالأجساد والأسهم والأرقام والنوافذ والرفوف والعيون. إنه من الفنانين القلائل الذين ينسون أنفسهم وهم يحدثونك عن مدنهم. قلت له إنه يمكنني أن أجد تاريخ أزمور في مظانه، فحدثني عن نفسك، فما زاد على أن واصل حديثه عن ليل المدينة ونهارها ونهرها وغيمها وشجرتها وإنسانها الذي لا يؤذي فراشة.

أزمور اليوم باتت عاصمة عربية للقصيدة المحكية، من خلال مهرجانها العربي الذي يتخذ تحديث الزجل رهاناً له، وقد نجح في ذلك على صعيد استقطاب الأصوات المنخرطة في هذا المسعى، وعلى صعيد بناء جمهور ينسى التصفيق ويغرق في التأمل. قال لي الزجال أحمد لمسيح إنه يمارس في مهرجان أزمور متعة أن يقرأ ولا يُجامَل بالتصفيق الكاذب.

في البال قصيدة أرغب في أن أسحب إليها أزمور إنساناً وألواناً ومكاناً، علّني أتعزى بها عن المغادرة: "حْمامة خارجة من عشْ ناقصاتو عشبة/ عشبة خارجة من صخرة ناقصاتها حْنانة/ قصيدة خارجة من قبر شاعرها، بعدْ ما نساتْ عنوانها. تْبنّاتها العشبة، في عش الحمامة ورَجْعو أزمور".

المساهمون