في عصور انحطاط الحضارات، يختلط السياسي بالديني، والاجتماعي بالفردي، والاقتصادي بالجغرافي، وتتشابك عناصر وأسباب هذا الانحطاط وتتمظهر مفاعيله في صور شتى، فهي في أحد جوانبها ارتداد المجتمعات إلى عصور الخرافة، وتنكّب العلوم وتجاربها، وسيادة الإرهاب الفكري، وهي تدهور فعاليات الاقتصاد المنتج، وهي شيوع الانقسامات القبلية والمذهبية وحروب الطوائف، وتفاقم الصراع على السلطة حتى بين أفراد السلطة الحاكمة، وأخيراً مطاردة واضطهاد كل ذي فكر حر، ورجمه بالحجارة أو قتله أو نفيه.
وفي كل المحن التي مرّ بها أصحاب الفكر الحر، وتعرضوا للقتل أو للنفي، نجد طوابع الانحطاط هذه واحدة في أي مكان أو زمان، ومنها مكان وزمان محنة أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (1126 - 1198).
هو أكثر فلاسفة الحضارة العربية تمكّناً من وسائل التنوير العلمية، أي البرهان العقلاني، وأكثرهم اطلاعاً على منجزات عصره وعصور الأوائل، وشارح كتب أرسطو التي تفتّح عليها وعي الغرب عن طريقه، وصاحب كتاب "الكُليّات" الطبي الأول من نوعه آنذاك الذي تحدث عن وظيفة شبكية العين والتشريح ووظائف الأعضاء، وصاحب كتاب "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، أي صاحب فكرة أن تراث اليونان العقلي لا يتعارض مع الإسلام، وللشريعة ميدانها، ولعلوم العقل والبرهان ميدانها.
أسباب مطاردة هذا المفكر متعددة، حسب روايات من تناولوا محنته، وحسب مستوياتهم الفكرية، فهي مرّة وشاية بعض وعاظ السلاطين من فقهاء اتخذوا الدين تجارة، وبعض متنفذي قصر أبو يوسف يعقوب الموحدي، الذي اتخذ لنفسه لقب المنصور (1160 - 1199)، وزعمهم بأنه كتب في شروحه لفلسفة أرسطو أن "كوكب الزهرة هو أحد الآلهة".
وزعموا أيضاً بأنه وصف في مكان آخر هذا الملقّب بالمنصور بأنه "ملك البربر"، وهي مرّة نزعته السجالية التي تنفر من نزعة المنادمة التي تخللت أطوار الحضارة العربية بلا استثناء، ومنها علاقته الشخصية بأبي يحيى، شقيق المنصور والطامح إلى الإطاحة به، والذي سيقطع المنصور رأسه بتهمة "مصاحبته الفلاسفة وإضمار الكفر والضلالة"، وأخيراً، كتابه "تهافت التهافت" الذي فنّد فيه مغالطات أبي حامد الغزالي في كتابه " تهافت الفلاسفة"، مع معرفته أن الغزالي، صاحب مقولة الكرة الأرضية المعلقة بين قرني ثور، كان أستاذ دولة الموحدين الأكبر.
وهكذا جرى استدعاء الفيلسوف "أبو الوليد" إلى مجلس المنصور، وأُهين ولُعن أمام الحاضرين واتُهم بالكفر والمروق من الدين، وأمر هذا الحاكم بإخراجه في أسوأ حال، وإبعاده وإبعاد من يتكلّم بشيء من العلوم المتعلقة بالفلسفة، وأمر أن تكتب عنه الكتب في البلاد طالبة من الناس ترك هذه العلوم جملة واحدة، وإحراق كتب الفلسفة كلها ما عدا الطب والحساب وعلوم الفلك التي تؤدي فقط إلى معرفة أوقات الليل والنهار واتجاه القبلة في الصلاة. ويُكثر المنشور الذي أمر المنصور بتوزيعه من التحريض على ابن رشد وجماعته.
قلنا إنّ هذا العصر كان عصر انحطاط، ومن يتحدث عن محنة فيلسوف مثل ابن رشد في القرن الحادي عشر الميلادي، عليه أن يتذكر أن بدايات الهجوم على العلوم العقلية، وأكثرها أهمية المنطق، كانت في بغداد العباسية التي تحوّل خلفاؤها إلى ببغاوات في أقفاص (القرن العاشر الميلادي).
فحسب رواية أبي حيان التوحيدي في "الإمتاع والمؤانسة" تم التنكيل بمترجم كتب اليونان، أبي بشر متّى، في مجلس الوزير ابن الفرات، حين تعرض له أبو سعيد السيرافي، محتجاً أن العرب ليست بحاجة إلى "منطق"، لأن إجراء لغتها في مجراها الصحيح حرفاً وكلمة وجملة، هو المنطق بذاته. وبدأ يطرح أحجيات نحوية على أبي بشر لا تعلق لها بموضوع النقاش. الأكثر لفتاً للنظر في هذا الهجوم المبكر أن الوزير ابن الفرات اعتبر تصدي السيرافي للمنطق وتسفيه مقولاته نوعاً من "الانتصار للدّين وأهله"!
وأعاد المجتمع الأندلسي قصة الصعود والانحطاط مرة أخرى، ولعبة التلطّي وراء الدين أيضاً. ففي هذا القرن ذاته، بحسب رواية صاعد الأندلسي صاحب كتاب "طبقات الأمم"، بدأت الحضارة العربية باستعادة ازدهارها بعد قيام حكم أموي هناك، فقد انتدب الأمير الحكم الملقب بالمستنصر بالله (915 - 976) محمد بن إسماعيل، المعروف بالحكيم، إلى العناية بالعلوم وأهلها، واستجلب من بغداد ومصر وغيرها عيون التواليف الجليلة، وجمع في قصره، خلال حكم أبيه ثم في مدة حكمه، ما كان يضاهي ما جمعته ملوك بني العباس في الأزمان الطويلة.
وكانت الفلسفة قد بدأت نشأتها مبكراً قبل ذلك، مع ظهور مالك الإشبيلي وابن باجة وصولاً إلى ابن رشد. ولعب بعض الحكام دوراً مهماً في استجلاب كتب الفلسفة وتشجيع الفلاسفة. إلا أن كل هذا سينقلب رأساً على عقب بعد وقت قليل من وفاة الحكم وتولية ابنه القاصر هشام.
وسيعمد الحاجب أبو عامر الذي أخذ بيده تدبير شؤون الملك منذ اللحظة الأولى إلى خزائن الحكم ومكتبته الجامعة للكتب، ويبرز ما فيها من تواليف بمحضر خواصه، ويأمرهم بإخراج ما فيها من كتب العلوم القديمة، كتب المنطق وعلم النجوم وغير ذلك من علوم الأوائل (ومرة أخرى حاشا كُتب الطب والحساب)، ثم يأمر بإحراقها وإفسادها، وطُرح بعضها في آبار القصر وهيل عليه التراب والحجارة.
في عصر مثل هذا، نُكب ابن رشد مرتين، بل نُكبت الحضارة العربية بالأحرى. الأولى حين نفي من قرطبة إلى مراكش تلاحقه لعنات السلطة وفقهاء الظلام والعامة على حد سواء، وطورد من أُطلق عليهم أشياعه، ولم يعد للفلسفة وعلم النجوم حظ لدى عامة الناس، وخشي الخواصّ العامةَ فلم يتظاهروا بها، وكلما قيل "فلان يقرأ فلسفة" أو يشتغل بالتنجيم، أطلقت عليه العامة اسم "زنديق" وقيدت عليه أنفاسه، فإن زلّ في شبهة رجموه بالحجارة وحرقوه.
والثانية، حين ضُرب طوق محكم حول فلسفته التنويرية ظلّ متواصلاً طيلة قرون، تماماً كما ضربت الأطواق على خير ما أنجزته العقول في سياق الحضارة العربية، فتراكم التراب على "مقدمة بن خلدون"، ولم يتابع أحد منجزات العلوم التجريبية، الطب والتشريح، ولا المنجزات الأخرى مثل طباعة الحروف المتحركة بقوالب خشبية، وما يدعى علم الحِيل (الميكانيك).. إلخ.
ولكن هل كان هذا التضليل لعقول العامة، وجعلها تتنكر لكل ما هو في صالحها، هو من فعلِها؟ نحن نعرف أن العامة لا تقرأ كتب الفلسفة ناهيك عن تدبر كُتب المنطق، فمن أين أتى التحريض على كل فكر مستنير؟ إنه يأتي من السلطات التي تعرف عن طريق "خبرائها" خطر نشر ثقافة لجوء الإنسان إلى العقل والبرهان في تدبير شؤون حياته السياسية والمعاشية والفكرية، بدل اللجوء إلى الشعوذة والتفسيرات الخرافية، وخطر فلسفة تفضح التسلط السياسي والاضطهاد الاجتماعي.
إلى جانب السلطة، يأتي التحريض أيضاً من قصار القامات الذين لا يستطيعون مطاولة العلماء المجتهدين، لأن مضمار العلم ليس من شأنهم إلا بمقدار ما يتلقّطون منه، خدمة لمطامعهم الشخصية. كل هذا الجمع- أهل زماننا كما يقال - يرمون العالِم بكل علم عقلي أو تجريبي بالبدع والزندقة، "ويشترك في هذا الأمر منهم رؤساؤهم ودهماؤهم وعلماؤهم"، كما يقول أحد كتّاب الأندلس المتأخرين.