إنّها رصاصةٌ طائشة

23 ابريل 2015
أن تكون مجنداً عسكرياً يعني أنك مشروع قاتل وقتيل(Getty)
+ الخط -

اللونُ الترابيُّ كانَ أولَ لونٍ ارتديتُه في حياتي الدراسية، كان ذلك في المرحلة الابتدائية. يرنّ جرسُ الاجتماعِ الصباحي، نردّدُ النشيدَ الوطنيَّ، وشعارَ الحزب الأوحد، ومقولةَ الأمة الواحدة، ثم ندخلُ فصلَ الدراسة متشحين بالتراب... صورةُ القائد الأزلي بسدارته الزيتية تتوسطُ أعلى الحائط، والسبورةُ تحته تماماً، هكذا يبدو العِلْمُ، وهكذا يضع طالبُ العِلْمِ أولى خطواته على سُلّم خدمة العَلَم.

ثمة رابطٌ أدركناه متأخرين بين التراب كَلونٍ ارتديناه، وبين ما سنكونُه لاحقا. لاحقا وفي المرحلتين الإعدادية والثانوية لبسنا اللون الخاكي وتم ترفيعنا رتبةً رتبةً بدءا من شارة صفراء واحدة ثم اثنتين فثلاث ثم حمراء واحدة.. إلخ. في الصف الأول الثانوي تدربنا في حصة التربية العسكرية على استخدام السلاح، مارسنا متعة الرمي بالبارودة الروسية التي تطلق رشاً ودِراكاً بزناد واحدٍ، كان ذلك في يوم الرمي على الأهداف الثابتة، وعدنا بعدها إلى ذوينا ممرغين بالتراب ورائحة البارود والحلم الكاذب بأمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة.

لصوت الرصاص نشوةٌ مستمرةٌ، يصبحُ الغِرُّ أسيرَها حين يلتحقُ مُرغَما بخدمة العَلَم الإلزامية كي يكون جاهزا للحرب المفترضة والمزمعة مع العدو الذي نحمي عرينه مذ أطلقنا الرصاصة الأولى أسفل ومنتصف الهدف، الهدف الذي أدركنا أنه نحن.

وفي الحرب، أن تكون مجندا عسكرياً يعني أنك مشروع قاتل ومشروع قتيل في الوقت ذاته، وقد أكلت الحرب الدائرة في سورية خيرة شبابها، هي لم تكن حربا بين طرفين متناظرين قوة ولا متكافئين عدة وعديدا، بل كانت فرضاً من الأقوى على الأعزل، ومن المهيمن الآيل للسقوط على الأضعف المتماثل للتحرر. واستطاع النظام عسكرة الشارع وزجه في الأتون ليقف العسكري ابن البلد وهو لا يملك ترفا أن يردد في سرّه: "وقفت وما في الموت شكٌّ لواقفٍ" منكفئاً، تحت ظلّ الموت المحلق مثل نسر جائعٍ، بينما يصيح به المراقبون: "أنت في المهبِّ وحدك" والمهبُّ أن تتناهبه الاحتمالات، فإما أن يترك الحرب وينشق عنها تاركا أهله تحت رحمة الأقدار، أو أن يواجه أخاه فوّهةً لفوّهةٍ، لتكون رصاصة السبّاق منهما ذئباً بينما الثاني الطريدةَ. واستمرت الحرب طويلاً، تناثر خلالها الجند والمدنيون من الجانبين أشلاء، والغريب أن كلا الطرفين يسميان قتلاهم شهداءَ، والشهادة وسام فضفاض قد يستعمله البعض طُعماً، بينما يراه الآخرون امتيازاً. وعليه اتسعت دائرة العسكرة، وانفتحت البلاد على مصراعيها لتصبح محرقة يتهاوى إليها المقاتلون من كل حدب وصوب، فيما آثرت بعض المليشيات المحلّيّة والغريبة، بما فيها جيش النظام على توسيع دائرة التجنيد تحت غطاء الاحتياط من جهة والنفير من جهةٍ أخرى بتجنيد كل من يقدر على حمل السلاح، بما في ذلك الأطفال. حيث يلاحظ أي شخص يمر بالحواجز المتناثرة على امتداد البلاد ظاهرة (البارودة أطول منك) في إشارة للأطفال الذين تم زجهم في رحى الموت. هؤلاء الأطفال، أقصد من سينجو منهم، لن يعودوا إلى مدارسهم، ولن تعشّشَ في ذاكرتهم صورة قائدٍ معيّنٍ، بل سيعلقون بدلاً عنها صورهم مدججين بأدوات القتل، وربما صورهم التذكارية مع الجثث الطرية، ولن يطربهم النشيد الوطني، بل سيتعودون الرقص على أنغام الدوشكا وهدير المجنزرات. سوف يكبرون، وسيتلعثمون حين تخطر ببالهم فكرةُ الحب، وحين يحاول أحدهم أن يَصِفَ حبيبته لن يجد وصفا يجيدُه أكثر من قوله: إنها رصاصةٌ طائشة.

الرصاصة كان يمكن، لولا أنها طائشةٌ، أن تستقرّ برأسٍ واحدةٍ قبل أن يتحول شعبٌ كاملٌ إلى عساكر محكومين بمقولة: "نفذ ثم اعترض" حيث الاعتراض يعني العقوبة.

ـ منبطحا: يصرخ القائدُ؛ فيحضن وجهنَا الترابُ.


(سورية)

المساهمون