... إنهم مثل "الحزب القائد للدولة والمجتمع"
بعد أكثر من أربع سنوات على فوران الدم السوري في حمّام ساخن، كلّما خبت ناره أُضرمت من جديد، لتحرق الأخضر قبل اليابس من البشر والشجر، وكل مظاهر الحياة السورية، لا يزال قسم كبير من النخب السياسية، وحتى الثقافية، متمترساً عند حدود خطابه القديم الذي لم يفعل شيئاً للشعب السوري، غير مزيد من التيه والضياع والدفع باتجاه العنف، وانحرافه عن أهداف انتفاضته التي كانت تتقدم باتجاه ثورة حقيقية، بكل ما يحمل مفهوم الثورة من انقلاب جذري على النظام القديم، بكل مناحي الحياة، وليس النظام السياسي فقط الذي كان، على مدى خمسة عقود، يزيد من تمكن النظم الجائرة كلها، ضماناً لعرشه واستئثاره بالسلطة واستبداده بالشعب. ما زالت هذه النخب التي صادر جزء كبير منها إرادة الحراك الشعبي، وطرح نفسه الممثل الوحيد والشرعي للشعب السوري، مثلما طرح ومارس قبله حزب البعث على مدى خمسة عقود نفسه القائد الوحيد للدولة والمجتمع، تغمض عينيها عن بعض الحقائق، وتتجاهلها وتعتم عليها، بينما تسلّط الضوء الباهر على بعضها الآخر، لتصنع منها ثوابت وحقائق، لها الدور الأول والأهم في انتصار الثورة، وإنجاز قضايا الشعب، المحقّة، في وقت صارت الحقائق جليّة مقروءة ومفهومة، ولا مجال لمواربتها، كيف يمكن لنخب سياسية أن تبقى ثابتة ساكنة، في موقفها وخطابها وأفعالها، في زمن المتغيرات السريعة؟
ما زالت هذه النخب بعيدة عن ميدان العمل الفعلي، الميدان الذي تجاهلوه، أو ركنوه على الهامش، منشغلين بلعبة سياسية أكبر منهم بكثير، بينما الوطن السوري يُدمّر بمنهجية محكمة وإرادة جبارة، يتبارى فيها أطراف النزاع بالإجرام. لم تشتغل هذه النخب على الوعي العام للشعب، وتُرك الضخ الإعلامي والأجندات المتباينة والمتصارعة تفعل فعلها في بنى المجتمع التي أوصلها القتل والتنكيل والتهجير والحرمان والفواجع إلى مرحلة الغريزية الثأرية، وأوصل الوطن السوري إلى حالة من فقدان الأمل بإمكانية البناء والنهوض من جديد، فيما لو توقف العنف وأخمدت نيران الحرب، بإمكانيةٍ تبدو ميئوساً منها في المدى المنظور، وذلك بنضوب نبع الحياة وخامات الإبداع والابتكار، جيل الشباب، هذا الجيل الذي من لم يستطع منه الهروب خارج الحدود يعيش حياة من العطالة، متخفياً في الظل، لأنه مجبر على حمل السلاح، في كل مناطق سورية، لصالح الطرف المسيطر على البقعة التي ينتمي إليها، بينما لا يريد أن يحمل السلاح.
الكلّ صار يعرف أن لا أحد نزيهاً من دم الشعب السوري، كما أن لا أحد وفّر مساندة أطراف الصراع، في إجرامها بحق الشعب. الكل صار يعرف أن دول الجوار فتحت حدودها لكل متطرفي العالم، المدفوعين إلى تلبية نداء الجهاد المقدس، مثلما كانت هناك دول ومنظمات دفعت مقاتليها إلى الأرض السورية، بحجة مساعدة النظام في حربه ضد الإرهاب، كما يدّعي. وللأسف، تحوّل الادعاء إلى واقع فاجر، ومع هذا لا زالت النخب "الممثل الشرعي الوحيد" للشعب السوري، تشيح وجهها عن الحقائق السافرة، مثلما استهانت ببواكير حرف الحراك الشعبي، عندما هللت لجبهة النصرة وغيرها من الكتائب المسلحة، أو الفصائل السياسية التي تقوم على عقائد إقصائية، أو بأقل تقدير، تحمل أجندات وبرامج ومشاريع تتناقض مع أهداف الثورة من حرية وعدالة ومساواة، وحلم بناء دولة مدنية، تقوم على المواطنة أساساً في بنائها.
لم تحصل النخب هذه على ثقة الشعب، بل كلما تقدم الزمن بالحراك الشعبي الذي تحوّل إلى حرب، فقدت صدقيتها، وأظهرت عجزها وقصورها عن مواكبة حاجات الشعب. ومثلما اشتغلت النخب السابقة للحراك، في عصر النظام الشمولي على القضايا الكبيرة، وطرحت الشعارات الباهظة، متناسية، أو مقصرة، عن المشكلات الداخلية والحقيقية للشعب السوري، غافلة عن وعي يتشكّل في الظل، وتحت رحمة الاستبداد المصادر للحريات، كذلك نخب اليوم انشغلت بلعبة سياسية كبيرة، وارتهنت لأطراف فيها، تاركة الشعب لتيارات متضاربة متصارعة، تصادر وعيه وتوجه أهواءه وعواطفه، حتى ضاعت البوصلة، وفُقد الأمل بالخلاص، إلّا بسقوط مريع، ينزف الشعب ما تبقى من دمائه على مقصلة الاقتتال الأهلي الذي يمكن أن ينفجر مثل قنبلة انشطارية.
وبعد أربع سنوات من العنف والعنف المضاد، ومن التجييش والتعبئة والحقن بكل أشكال الفتنة والفرقة والثأرية ومشاعرها، ودفعها إلى أقاصي التطرف والمغالاة، من الحمق، أو بتعبير ألطف، من المجانية، الكلام عن موقف يجب أن تتبناه بعض الطوائف، أو الأقليات، من أجل توجيه الضربة القاضية للنظام وإنهاء الحرب. بعد كل هذه الدماء، وهذا العنف وهذه الثأرية التي لم توفر عَرضَها وإرسالها إلى الضمير العام المنابرُ الإعلامية المتنوعة، من شاشات ومواقع إلكترونية وصفحات تواصل، وحتى صحف ورقية، مثلما كان للإعلام دور كبير ومؤثر وخطير، ربما فاقت خطورته الحرب الميدانية، وما نجم عنها من سفك دماء وقتل أرواح ودمار مدن وقرى وتهجير وتنكيل وغيره، مما لم تبخل به تلك المنابر والشاشات.
بعد أربع سنوات من الجحيم السوري، ومن تخلّي الأطراف الداعمة للحرب عن الشعب في محنته، بل ودورها الذي لعبته في إضرام نار الحرب، وتسهيلها المقاتلين الأجانب بعبور الحدود وانخراطها في القتال، وبعد مساندة الكتائب الجهادية المتطرفة المعادية، في طروحاتها ومواقفها، للحرية ومبادئ الثورة، على حساب الجيش الحر الذي اضمحلّ وتراجع دوره، بسبب تركه وحيداً في العراء، بلا تمويل ولا دعم، وبعد وصول المجتمع السوري إلى مرحلة التهتك المريع، وصار جاهزاً لضربة قاضية، يقوم بها تجاه نفسه، ضُخّ الدعم بغزارة، ودفعت الكتائب إلى معارك أشرس وأقوى، وهجّر المزيد من أبناء المناطق التي تقوم فيها المعارك، وزهقت أرواح كثيرة في تقاطع نيران شرس وحاقد بين سماءٍ، يسيطر عليها النظام، وأرض امتلكتها الكتائب المقاتلة، وتدفقت مشاهد القتل الانتقامي والتطهير الطائفي، وتعالت الأصوات المتوعدة بأبناء الساحل، وانطلقت الخطابات "الرصينة والحريصة" من النخب التي تدعوهم إلى أن يكونوا الضربة القاضية للنظام، أملاً وطمعاً بسورية جديدة، يكون لهم موقع فاعل فيها.
وترافق هذا كله بالتلويح بمعركة الساحل، متجاهلين حقيقة أن الساحل صار بمثابة الحاضن الأكبر لجزء كبير من أبناء سورية المنكوبة، ومتجاهلين أكثر، كما تجاهلوا في السابق، دراسة المجتمع في تلك المنطقة بشكل دقيق ونزيه، مرددين المقولة الجامدة الخشبية التي تعتبر الطائفة العلوية جسماً صلداً واحداً، يحمل ملامح الهوية التي منحوه إياها. المنطقة الساحلية التي تغص بأبناء سورية من جهاتها الأربع، كان أهلها حاضنة لإخوتهم المنكوبين الذين لجأوا إليها ولاذوا بهم، وعلى الرغم من كل التجييش والحقن والفتن المنظمة، وعلى الرغم من توفر السلاح بكثافة غير مسبوقة والفوضى العارمة وغياب القانون، لم تحصل فيها جريمة انتقامية واحدة، وقبول إخوتهم السوريين في مدنهم وقراهم، واشتغال عدد كبير منهم في عمليات الإغاثة ومساعدة النازحين إليها هو "أضعف الإيمان"، ومؤشر كان من الإيجابية بشيء الالتفات إليه، والاشتغال عليه، وجعله منطلقاً لكسب الرأي العام، بشكل أجدر وأجدى، عوضاً عن تأييد الخطابات والسلوكيات الطائفية والانتقامية، أو تجاهلها.
كان الشعب السوري، بكل مكوناته، يعيش تحت خيمة الاستبداد نفسها، ومارس النظام القمعي نهجه في الحكم الشمولي على كل فئات الشعب، وعمل، عقوداً، على تغريب العقل، ودفعه إلى العطالة شبه التامة، بينما كان يعمل على إنشاء وتأسيس كوادر يكون همها وشغلها وطموحها خدمة النظام الذي تماهى في وعي الشعب مع الدولة، فلماذا يُطلب من بعض مكونات هذا الشعب أن تمتلك الحدّ المطلوب من الوعي، بينما الشعب كله كان مغيّب الوعي؟ ولماذا النخب السياسية والثقافية التي اصطفت إلى جانب قضايا الشعب، منذ انطلق، في تظاهراته الرافضة للاستبداد، لم تشتغل على حماية الوعي الجمعي وحماية مشروع الثورة من الانحرافات الخطيرة التي أودت بها؟
يقول المثل الشعبي السوري: خرج من تحت الدلف إلى تحت المزراب. وهذا يعني أن المرء انتقل من بلل إلى بلل أكبر، ومن سيئ إلى أسوأ. وهذا هو حال الشعب السوري، بعد سنوات الدم الذي تلوثت به أيادي كل أطراف النزاع، وبعد أن كان عقوداً تحت حكم الحزب القائد، يدخل مرحلة التيه، ووطنه مهدد بالتقسيم، خصوصاً أن التقسيم المجتمعي وقع وترسّخ تقريباً، بينما النخب تبارك جرائم في مكان وتنكرها في مكان آخر، وتنسى أن الشعب، مهما تألم وقاسى، يبقى قادراً على الفصل بين الأمور وفهم المعاني والاحتفاظ بذاكرته، وتصبو هذه النخب لأن تحل محل "الحزب القائد".