إلى اللقاء العام القادم

03 مايو 2016
لوحة للفنانة الأميركية كاثرين حنان ملكي (Getty)
+ الخط -
طال انتظار تأشيرة السفر في مبنى القنصلية العريق، المحوط بحديقته الفسيحة، الهادئة، الباسقة الأشجار، الحافلة بجوقات العصافير، وبسور عالٍ يفصلها عن المدينة التي لا تشبهها في شيء. يشكر المرء أقدار التاريخ على هذه الواحة الغريبة، المنسيّة هنا، وسط ركام العاصمة المتنامية عشوائيّاً في الأرض والجوّ، عمائر همجيّة، مكدّسة على مدى النظر كيفما اتجه، بلا بنية، ولا طراز، ولا ذاكرة، ولا تاريخ، ولا روح، حيث ما من شجرة تُرجى، ولا رصيف، ولا مكان لعابر سبيل خارج فيض المركبات الحديدية الهائل، الخانق الشوارع والأزقّة، في انعدام الأفق والرجاء، والنهار ربيعي حارّ، عابق بروائح النفايات المجمّعة منذ شهور، ريثما يتفق غربان البلاد على تقاسم مكاسبها.

كان رونق المكان يخفّف من وطأة الانتظار. ولم تكن زحمة المنتظرين لتوقِف، ولو لثانية، هذا النهر الداخلي، المنساب على الدوام، بطيئاً، خافتاً، رهيفاً، مفعماً بالأسرار، واصلاً الذات بكل ما في الكون من عوالم.

أكتبُ في يومياتي ما يأتي: "إنها الساعة العاشرة صباحاً. مرّت أمامي على شاشة الحائط شجرة كبيرة، كثيرة التفرُّع، عارية الأغصان، على أفقٍ صافٍ، بارد. دهمتني، على حين غرّة، تلك اللحظة التي أصفها بـ"المتوهّجة"، لأن لا وصف لها، وأضاءتني من أقصاي إلى أقصاي. قلت في نفسي: "كيف لي الغوص عميقاً في هذا المشهد؟ كيف لي ولوج روحه؟". وانتابني قلقٌ بلا انتهاء، أدركتُ أنه الوقت الذي عبر، وأنه الوقت الذي سيعبر. وأن عمراً واحداً لا يكفي لولوج مشاهدات هذا العالم. وأنه، يا للخلل المهول، ما يحيا يحيا من دوننا، ونحيا من دون ما يحيا".

                                  ************

دخل القاعة رجلٌ كهل، متواضع اللباس، على تعثُرّ طفيف في مشيته، يعتمر قبّعة صيفية، ويعلو وجهه مزيجٌ من الهدوء وعزّة النفس وزوال أوهام الحياة. طلب التوجّه إلى "مكتب الخدمة الاجتماعية". لا بدّ أنه من حاملي الجنسيتين، يأتي إلى هنا لتلقي مساعدات مخصّصة لمن هم في حاله. سرعان ما حضرتْ موظّفة أنيقة، في منتصف العمر، واصطحبته، بلطف وبشاشة، إلى مكتبها. أعادتني رؤيتهما إلى صورة رجل في عمره، لا بدّ أنه مُصاب بمرض عضال، إذ تساقط شعره، وغطّت فمه وأنفه كمّامة طبيّة بيضاء، التقيته وهو يتسوّل عند إشارة حمراء في "الدكوانة"، وأنا في طريقي هذا الصباح إلى هنا. لا شكّ في أنه يحمل جنسية واحدة، جنسية بلاده، مثله مثل الآلاف من أترابه، المتروكين لقدرهم في هذه المدينة.

لكن على الرغم من إعجابي باستقبال امرأة القنصلية الرجل الكهل، بقي في مكانٍ ناءٍ، مبهم، في داخلي، شعورٌ غامض، يصعب تفسيره، يغلبُ عليه ما يشبه الخيبة والأسى. تساءلت: "لماذا؟". واستعدتُ بعد حين، وأنا أجوب حنايا نفسي، شعوراً غامضاً مماثلاً، كان ينتابني خلال هجرتي في الغرب، حين كان يقول لي أحدهم، بتهذيب بالغ، مودِّعاً: "إلى اللقاء العام القادم".

لم يكن قائل "إلى اللقاء العام القادم" من أترابي أو أصدقائي، بل من أناس لا معرفة لي بهم ولا صلة. كانت ترد العبارة في ختام لقاء مع موظف، أو موظفة في إحدى الإدارات، مثل التي استقبلت رجلَ القبّعة الصيفية ها هنا قبل قليل، وكانت ترد في ختام معاملة تحدث مرّة واحدة في العام، مثل دفع ضريبة الدخل، أو تجديد عقد الإيجار، أو شهادة طبيب العمل. غالباً ما كانت تنتهي المعاملة بتلك العبارة الوداعية المهذبة، التي كانت، في كلّ مرّة، تؤلمني في قرارة نفسي، لا أدري لماذا. لو اكتفى مودّعي، أو مودّعتي، بالقول: "إلى اللقاء"، من دون إضافة "العام القادم"، لما كان انتابني، على ما أظنّ، ذاك الشعور.
طالما كنت أستغرب ذاك الشعور الغامض، العابر، الذي سرعان ما يتلاشى وأنا أخرج مجتازاً "ساحة المعهد الملكيّ"، أو "حديقة لوتيسيا"، أو "شارع الوردتين"، أو غيرها من الأمكنة، تحت المطر الرهيف الهاطل رذاذاً، وطالما كنتُ أحتار في تفسيره. لماذا الشعور بما يشبه الخيبة والأسى، أمام عبارة وداعية، فيها ما فيها من أدب السلوك والرقي؟ يمكن أن تكون قائلتُها صبية شابة وجذابة، ويمكن أن تكون امرأة في أواسط العمر، أو سيدة كهلة، متعبة، فقدت رونق الصبا من زمان، أو يكون القائل رجلاً لا تميّزه صفة ما. ولا بدّ أنهم يستقبلون كلّهم، سحابة يومهم، عشرات الأشخاص، ويودّعونهم بالعبارة عينها، ولا همَّ لهم إلا انتهاء عملهم والعودة مساءً إلى بيوتهم، أو ملاقاة أحبّتهم هنا وهناك، في هذه المدينة المفعمة، ليل نهار، بما لا نهاية له من اللقاءات والانفصالات والاحتمالات. ولماذا ذاك الشعور ما دام صاحب العبارة لا يهمّني في شيء، ولا أهمّه في شيء، ولا مكان لأحدنا في حياة الآخر؟
"إلى اللقاء العام القادم"، ربما ستقولها بعد قليل سيّدة القنصلية وهي تودِّع الرجل الكهل، بمثل ما استقبلته به من لطفٍ وبشاشة. عبارات بسيطة شائعة، لا شأن لها، ولا يأبه أحدٌ لها، يمكن أن تكشف أعماق الذات وأعماق الجماعة. إنه التهذيب الغربي نفسه، دليل رقي وحضارة واحترام الشخص البشري، المتساوي مع سواه، كائناً من كان. وهو نتاج تاريخ طويل من الثورات والتحوّلات، على مدى أربعة قرون، في الأفكار والقيَم والفنون والعلوم والتقنيات والاقتصاد والسياسة، وفي رؤية الذات والآخر والمقدّس والزمن والطبيعة والجسد والموت، تخللته الثورة الفردية، وتكرّست في سياقه الحداثة، التي غيّرت وجه العالم.

عبارات تهذيب بسيطة شائعة، لكنها تنطوي، في أمكنة ما منها، على مدلولات لا واعية، تتخطّى كليّاً قائلها وسامعها، الذي هو أنا. كأنّه، تحت الرقي، في مناطق، قصيّة، خفيّة منه، تكمن اللامبالاة، والعزلة، والأنانية، والعقلانية الصارمة، وفقدان الجذور، وضعف الارتباط بالأمكنة والكائنات، وعدم القدرة على التواصل. تحته، يُقيم الإنسان المنفصل. كأنّ قائلتها لا تكترث قطّ لعدم رؤيتي، أو رؤية سواي، لعامٍ كامل، وهي لن تفكِّر فيَّ، أو في سواي، مرّة واحدة خلاله. عامٌ كاملٌ أمرٌ كبير، تظهرُ وتختفي فيه وقائع ومصائر لا حدّ لها، ولا من يدري. عامٌ كامل، أو مئة عام، أيّ فرق؟

                                 ************

ذكرتُ مرّةً أنه، على الرغم من مغادرتي شقة حيّ مونج وعودتي إلى بلادي منذ عشرين عاماً، لا أحد ربما، في المبنى الهادىء، الأنيق، المطل على تلك الحديقة، يدري حقاً بغيابي. لا أحد يدري بغياب أحد. كلما أعود إلى هناك، وأنا أحب العودة إلى الأمكنة نفسها، أصادف أحياناً أحداً يعرفني، يقول لي: "لا نراكَ كثيراً هذه الأيام. لا بدّ أنك كثير الانشغال والتنقل"، فأجيبه بابتسامة. وذكرتُ مرّةً كيف سألتني تلك المرأة، بعد سنين طويلة على مغادرتي، إذا كان معي المفتاح الخارجي للمبنى لأفتح لها، إذ نسيتْ مفتاحها في السيارة. وذكرتُ أيضاً، أنه لولا مصادفة لا شأن لها، لما عرفتُ بانتحار روزا، ليلة الرابع عشر من يوليو/ تموز، قبل ثلاثين عاماً، ولكنتُ اعتقدتُ حتى الآن أن الصبية الهيفاء، المرهفة، البالغة الحسن، الحيّة الروح، ما زالت في شقتها الجميلة، القليلة الأثاث، نفسها، في مبنى مونج. 

"إلى اللقاء العام القادم"، أو بعد مئة عام؟ يحمل التعبير، في أعماقه، مساواةً من نوع آخر أيضاً، هي المساواة الحقيقية. شيءٌ من عدم القدرة على تمييز هذا من ذاك، بين كل هؤلاء البشر، المتشابهين، المتساوين، في معركتهم الخاسرة مع الزمن، وفي سيرهم المحتوم، حيثما كانوا وكيفما كانوا، إلى مكان واحد، إلى انحطاط أجسادهم وانطفائهم.




دلالات
المساهمون