إرادة الشعب بين الفصحى والدارجة

21 يونيو 2015
بيت لأبي القاسم الشابي في غرافيتي لـ "إل سيد"
+ الخط -

"وينو البترول" عبارة دارجة استعملتها مؤخَّراً فئات الشباب في شبكات التواصل الاجتماعية والخطابات الرسمية، للتساؤل عن كيفيات استغلال الدولة التونسية - منذ استقلالها سنة 1956- للثروات الطاقية، وللتثبت من كيفيات توزيعها. وفي العبارة ريبة في مشروعية السلطة، ومطالبة - بلهجة لا تخلو من الثورية - بالشفافية والنزاهة في إبرام العقود، وفيها - فوق ذلك كله - دعوة لعدم استغفال الشعب.

وقبل هذه الحملة بأربع سنوات، وتحديداً يوم 14 يناير 2011، أطلقت هذه الفئات الشبابيّة نفسها عبارة موغلة في فصاحتها، متينة في تركيبها، لطيفة في إيحاءاتها، قاهرة في تأثيرها: "الشعب يريد إسقاط النظام". وفيها تقديم للفاعل على فعله عناية بسطوته.

كما درج استعمال اللفظة الفرنسية "ديغاج" (dégage) في المظاهرات. ولقد فُضّلت هذه الكلمة الدخيلة على صنوها العربي: "ارحل"، لقوة إيحاءاتها بفعل الطرد المهين، إيحاءات تتأتى من استعمالاتها الفرنسية زمن الاستعمار لتونس.

ليس هدفنا من عرض هذ العيّنات السريعة إجراء تحليل سياسي للعلاقات المنعقدة بين اللغة والحراك الشعبي، وللدوافع السياسية والثقافية، وإنما هو مجرّد التأكيد على وجود السجلين: الفصيح والدارج، أثناء التعبير عن إرادة الشعب في فترات احتجاجه وتململه، إذ بهما يصوغ مطالبه "عفو البديهة دون كد الرويَّة"، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن دوافع استعمال هذا السجلّ أو ذاك، وعن العوامل التي تتدخل لإنتاج الخطاب الشعبي التلقائي؟

من المعلوم في النظريات اللسانية، أنّ الشعارات السياسية تكتسب طابعاً جماعياً غير واعٍ، ويصعب ربطها بشخص واحد معيّن، فكأنّ الضمير الجمعي ولسان حاله هما مَن يطلقانها في لحظة ما، وتتولى من بعدها سائر الوسائط اللغوية، من صحافة ومعاجم ومدارس وخطابات، تداولها ونشرها.

والمعلوم أيضاً أنّ اختيار السجل يتناسب مع طبيعة المتلقي واستراتيجيات المتكلم التواصلية. ومن الجليّ أنّ عبارة "وينو البترول؟" -وليس: أين النفط؟- تحقق فعلاً كلامياً يتضمن، في الآن ذاته، التساؤل والمطالبة والاتهام والتشكيك في الشرعية. وهذا من بلاغة الدارجة وإيجازها الذي تعجز هنا الفصحى عنه.

أما جملة "الشعب يريد إسقاط النظام" فتتناسب مع رسميّة الدعوة وجلال الموقف الثوري في بداياته، مما اقتضى اللجوء إلى الفصحى بما فيها من كنوز الفخامة. تتجه العبارة الدارجة إلى الداخل التونسي، وتتجه الجملة الفصيحة إلى الخارج خطاباً إلى الأسرة الدولية. إن الاختيار بين الفصيح والدارج لذو دلالة، فـ "اختيار المرء/ الشعب قطعة من عقله".


* باحث وأستاذ جامعي تونسي/ فرنسا

المساهمون