أيام تونسية

27 يناير 2020

تونسية في مسيرة ذكرى الثورة في العاصمة (20/10/2018/ الأناضول)

+ الخط -
لعلها الزيارة الخامسة الى تونس، غير أن هذا البلد لا يكفّ عن إدهاشي المرة تلو أخرى. أعود بالذاكرة إلى الزيارة الأولى في عهد بن علي الذي زعم أنه فهمهم بعد فوات الأوان. كانت الشوارع وواجهات المحال التجارية والبنايات، وحتى جدران المساجد، مغطّاة بصور مؤذية بصريا للزعيم الأوحد ببدلته الأنيقة، وملامحه القاسية الصارمة، وشعره المصبوغ بلون أسود فاحم، تأكيدا لخديعة الفتوة. كان ذلك في مدينة سوسة، مسقط رأس الزعيم المخلوع، وذات الحظوة الكبيرة في عهده البائد. شاركتُ حينها في ملتقىً أدبيٍّ نسوي، في المدينة الجميلة المنظمة المبالغ في الاعتناء بها، ضم نخبة من كاتبات عربيات وتونسيات. قرّرت، ذات ليلة، صحبة زميلاتٍ، بعد انتهاء أعمال الملتقى، الذهاب إلى الشاطئ الذي يبعد عن الفندق عشر دقائق سيرا على الأقدام، بغية الاسترخاء استجماعا لقوانا من أجل اليوم التالي. كان الشاطئ خاليا ومعتما، فيما موج البحر ثائرا. جلسنا على الرمل، نستعيد مواقف طريفة حدثت في الملتقى، لنجد أنفسنا محاطات، على نحو مفاجئ، برجالٍ يرتدون ملابس مدنية، قدموا أنفسهم رجال أمن. سألونا بجلافةٍ عما جاء بنا إلى تلك البقعة، بعد أن طلبوا منا إبراز أوراق ثبوتية، لم تكن أي منا تحملها. وبعد أن أدركوا أننا ضيوف على البلد، سمحوا لنا بالانصراف إلى الفندق الذي نقيم فيه بذريعة الدواعي الأمنية! ولم نجرؤ على أن نسأل عن وجه الخطورة في عصبةٍ من النساء، يجلسن قبالة البحر الذي فقد سحره، حال الظهور الأمني غير المبهج. عدنا أدراجنا غاضباتٍ من فظاظة أولئك الرجال الغامضين، متوتّري الملامح، وانعدام كياستهم.
بسبب تلك الذكرى البعيدة، فرحت جدا بزيارتي قبل أيام عند وقوفي أمام حاجز رجل الأمن في مطار قرطاج، قبل أن يضع الختم على جواز سفري. استقبلني بابتسامة كبيرة، مرحّبا بي، متمنيا لي إقامة سعيدة، ممازحا عند إجابتي عن أسئلته الودودة عن سبب زيارتي ومحل إقامتي، والمؤتمر الأدبي النسوي الذي دعيت للمشاركة في أعماله، قائلا: الرجل مظلوم، يا سيدتي، والمرأة عندنا أخذت كل حقوقها وزيادة.. ماذا تردن بعد؟.. حين جلست في التاكسي، أخذ السائق يتذمر من أزمة السير التي تشتد حين انتهاء الدوام الرسمي، ثم سألني كوني قادمة من بلاد الشام عن آخر مستجدات قصة زوج نانسي عجرم الذي أردى مقتحم بيته بإطلاق 17 رصاصة مزقت جسده. وقال السائق، بحسب متابعته بعض الفيديوهات، إن هناك شيئا غير مفهوم في القصة. لم أستطع التركيز على كل ما يقوله، فقد كنت أحاول الاستماع إلى حوار من المذياع إلى نائبين عن التشكيلة الحكومية المقترحة التي رفضها البرلمان. أعجبت بمستوى ثقافة الرجلين، وقدرتهما على إيصال أفكارهما بشكل حضاري. تأملت البنايات، وقد عادت بيضاء ناصعة لا تشوهها صور زعيم أوحد يحكم البلد بسطوة البوليس.
الشوارع تعجّ بالنساء الأنيقات القويات المعتدّات بأنفسهن، غير المضطرّات للاعتذار عن أنوثتهن. ترأس بلدية تونس العاصمة سيدة جميلة، قوية الشخصية، يسمونها شيخة المدينة، تنتمي إلى حركة النهضة (الإسلامية)، على الرغم من مظهرها الغربي. وتونس العاصمة كما سوف يستنتج زائرها مدينة صديقة للمرأة، تحترمها وتحتفل بها، بغض النظر عن طريقة لباسها. وقد أنصفتها وصانت حقوقها نصوص قانونية في مجال الأحوال الشخصية والحقوق المدنية، فوصلت إلى وضع معقول نسبيا، قياسا لواقع المرأة في بلاد عربية عدة.
نغبط المرأة التونسية على ما حققته، ونفرح للمواطن التونسي الحر الذي يعيش وطنُه نهضة حقيقية، تبشّر بمزيد من الإنجاز على كل الصعد، على الرغم من تحديات كثيرة سوف تذللها إرادة الشعب التونسي الحر والشجاع. وقد يكون للحديث بقية.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.