أيام "قم للمعلم وفه التبجيلا"

24 اغسطس 2019
+ الخط -
فتحي محمد حسين الحاج، فلسطيني درسني لخمس سنوات لغة عربية، من الابتدائي وحتى نهاية الإعدادي. أول مرة جئت في فصله صدفة، خامسة أول على ما أعتقد، وفقا للأبجدية والنجاح والإعادة. درسني الصف الخامس وكان يدرس كل فصول الخامس في العربي، إضافة للإملاء والخط. الصف السادس، لم أكن من ضمن طلبة فصله، رغم أنه انتقل لتدريس فصول من الصف السادس، بالإضافة لفصول من الخامس، لا أتذكر هل نقلني إلى فصله أو أنه بدل أحد الفصول التي يدرسها واختار فصلي، وقد كان، حسب ما عرفت لاحقا من خلال تجربتي، جديرا بأن يدرس بالجامعة، لا الإعدادي وبدون ترخيص اللهم كفاءته. لاحقني في الإعدادية وكان يدرس خمسا وثلاثين دقيقة من المنهج، يضيف إليها عشر دقائق كثيرا ما يتجاوزها فيأخذ الاستراحة كاملة، ونتضايق منه، ليدرسنا ما لا علاقة لنا به مواضيع، هي في الأغلب متقدمة، الثانوي والجامعة.

كان يلبس "جاكيت" بنياً مخططاً بالطول أو أزرق، ما زلت أتذكره، مهيب الجانب. كنت كثير الشغب قليل الدراسة، لكن لا أنسى شيئا من الحصة. أتذكرها من بدايتها إلى نهايتها، وقتها كنت قليل الكلام كثير التركيز، لدرجة أنفصل تماما عن محيطي في كل المواد وكأني أتابع فيلم كاوبوي إلى أن تنتهي الحصة. قبيل العصر لدينا فريق فوتبول في حينا، نتفق أثناء استراحة الفطور على مباريات، ولكل فريق حي ملعب ترابي، في حينا ملعبان، واحد ترابي، وآخر مرصوف "ستاك". نقوم بتجميع قرشين من كل لاعب، كان هذا قبيل الثمانينيات، ونشتري علبة "حلقوم"، سوري أو تركي، من اثني عشرة إلى عشرين قرشا، يقولون على القرش عشرة دراهم لم أستعملها ولا غيري طيلة عمرنا وحتى الآن، وكذلك يفعل الفريق المنافس. في نهاية المباراة، يربح الفائز كأس المباراة "علبتي الحلقوم". أثناء الامتحانات النهائية، كنا نلعب كرة القدم وأحيانا يغيظنا صاحب الكرة ويأخذها مغادرا، حال خسارة فريقه، متذرعا بأي سبب وأحيانا بلا أعذار. كنا نقول عنه "عيل" ونلعنه متناسين أننا أيضا "عيال".

أتذكر أنني تسببت في إتلاف كرة، كان صاحبها يكرهني، لأن فريقي دوما يتغلب على فريقه. لذا أصر على دفع ثمنها، تدخل رفاقنا، لكن لم أرضَ أن يذلني بكرته التافهة مثل تفاهته، فقبلت أن أعطيه ثمنها لكن بالقسط المريح. كان ثمن الكرة 20 قرشا قسطتها على عشر دفعات، وأعتقد أنه تنازل عن آخر قسط واشترى كرة جديدة. 

حصلت على 29 من 30 في امتحان الفترة الأولى في اللغة العربية، درجة ممتازة خلت أنها ستسعد أستاذي الفلسطيني، خاصة وأنها الأعلى وأقرب درجة بعدها بعيدة جدا. كان دوما يلوح بعصا غليظةٍ مستطيلة الشكل أشبه بمسطرة لوح عملاقة. قرأ الدرجات ثم طلب مني الخروج أمام الطلبة. كنت دوما أخشى تقلبات مزاجه لكن هذه المرة لم أتوقع أي "غدر" منه. قال لي "مد يدك" وهذا أمر الجلد "المشهور". انزعجت وعبرت عن ذلك باستغرابي فقط فقد كنا لا نجرؤ على أن نتكلم أو نناقش قرارته، فيما في الدراسة الأمر مفتوح على مصراعيه للنقاش. حصلت على جلدتين حارتين، كان يتفنن ويتلذذ بالتركيز والتلويح كم مرة ثم تسديد العصا إلى مكان غير مؤذٍ، كف اليد.

أمرني بالرجوع لدرجي، وكنت أحب الأدراج الأخيرة، إلا في حصته فرض عليّ الدرج الأول. لم أنبس ببنت شفه غير أني ما زلت غير متفهم ولا متقبل من داخلي. خاطب الطلبة قائلا أتعرفون لما ضربت أحمد؟ وكانوا كلهم يتوقعون عقوبة أكبر من عقوبتي. نعم حصل على أعلى درجة، وهو الوحيد الذي أجاب عن سؤال من منهج الثانوي بشكل صحيح، هذا السؤال وضعت درجته لكل منكم في ورقته، ولم أرصدها لأحد. أخطأ في سؤال معظمكم أجاب عنه.

كانت من مرات قليلة أو لعلها الوحيدة باستثناء فلقة "جامعة" عامة لكل الفصل كونه طلب منا حفظ أبيات شعر تصل للعشرين، في آخر حصة اليوم وسيتم "التسميع" غدا صباحا، حيث كانت له الحصة الأولى والثانية فوقها، لم نحفظ لكون الأمر غير معتاد، فهو حين يطلب منا حفظ نص شعر أو نثر يعطينا أسبوعا كاملا. فوجئنا اليوم التالي به وقد أحضر فلقة ومدرساً احتياطياً. وسألنا هل حفظنا القصيدة قلنا لا، فبدأ بنا بالواحد من أول الصف الذي على يمينه إلى آخر الصف الذي على يساره. يربط أرجلنا ويلف الفلقة ويتفنن كعادته في التلويح والتسديد "بحرفنة" بحيث تكون موجعة لاذعة لاسعة. ولبسنا "جواربنا وأحذيتنا" بعدها، وأتذكر أن الوقت كان شتاء وما أقسى الفلقة في صبح الشتاء، ليبدأ بعدها درسا جديدا.

كان مربيا رائعا رغم قسوته أحيانا، يحب طلبته ومهنته، ولم يبخل علينا بعلمه. انتقل معظمنا إلى نفس المدرسة الثانوية، كنا نلتقيه أحيانا كل بضعة أشهر، وأيام كان يدرسنا كنا نهرب حين يتراءى لنا خياله من بعيد. نهرب ونختفي حتى لو لم يكن هو. هناك بعض المدرسين إذا رأونا في الشوارع، يسألوننا عما كنا نفعل وجيلنا طيب بسيط لا يعرف الكذب فلا يجدون صعوبة في الحصول على إجابات نعاقب بناء عليها إلا أن يعفى عنا. لاحقا وحتى ونحن نهرب فرادى كنا أو زرافات كنا نختلق قصصا "مقنعة" ـ Just in case - فلربما رأونا.

فعلاً "قم للمعلم ووفه التبجيلا..." كانت حقاً تنطبق على تلكم الفترة، خصوصا أننا كنا لا نجرؤ أبدا على بث همنا وحزننا إلى ذوينا، فلربما تضاعفت العقوبة، مع رسالة شكر للمعلم على تفانيه في أداء الواجب، وأكون أنا "البوستجي" فوق هذا. آخر مرة، التقيته كانت في نادٍ ثقافي مستضيف لمعرض كتاب. سألني عن تخصصي وقد كنت بالثاني ثانوي. أجبته، وأنا خجل، علمي، فقد كان يُعِدني للقسم الأدبي، ليستلمني مدرسا مصريا أعطاني اسمه بالإعدادي. شعرت أنه لم يرتح رغم أنه ما صرح بذلك مطلقا. بعدها لم ألتقه أبدا ولأعوام، فبدأت بالسؤال عنه ولم أجد إجابة إلا بعد فترة. قيل إنه موجود في أحد سجون القذافي السياسية بطرابلس ولا أحد يعرف هل هو حي أو مات، رحمه الله حيا أو ميتا. عمره الآن في نهاية الستينات تقريبا، فإن عرف أحد عنه شيئا ليراسلني على بريدي.

في الثانوي، كانت حرب تشاد بدأت منذ أعوام، أصبحنا شبابا، لا يخيفنا المعلم بل نحن من يخيفه، استغلينا العسكرية التي أدخلت إلى الثانوي لفعل كل الموبقات دراسيا. كنا نتغيب دون عذر ونذهب لعريف الفصيل أو رئيس عرفاء السرية (صول السرية)، نأخذ منه ورقة تثبت أننا كنا في مهمة "وطنية عسكرية" في فترة التغيب. كان العسكر والجند مختلفين، فقد تعودنا منهم واكتسبنا عدم الانضباط، الصفة التي تطلق عليهم زورا وبهتانا. تعلمنا التدليس، الكذب، عدم احترام المعلم، أشياء كثيرة سيئة، فالعسكرية في بلد مثل بلدان العرب تختلف عن عسكرية أميركا المنضبطة جدا. ما كان سببا في نجاحنا وحصولنا على الثانوية العامة هم بعض الأساتذة الذين يشبهون فتحي محمد حسين الحاج، ومعظمهم كانوا ليبيين، مصريين، أو فلسطينيين وهم قليل، عدا ذلك فقد اعتمدنا في العربي على ما علمنا إياه أستاذ الابتدائي والإعدادي مسبقا، ونجحنا في العربي دون أن ندرس العربي.

دلالات
8E38CF27-B10A-4916-A022-177616221C42
أحمد يوسف علي
مختص في نظم المعلومات ومحاضر جامعي سابق.