وعند انطلاق التظاهرات، في 21 نوفمبر/تشرين الثاني العام 2013، لم يكن أحد يتصور تداعياتها، بدءاً من تحولها لأعمال عنف وهروب الرئيس فيكتور يانوكوفيتش إلى روسيا، وإقدام موسكو على ضم شبه جزيرة القرم في مارس/آذار 2014، واندلاع معارك عنيفة في منطقة دونباس (مقاطعتا دونيتسك ولوغانسك شرق أوكرانيا) في إبريل/نيسان من العام ذاته، ونشوب واحدة من أكبر الأزمات التي شهدتها العلاقات بين موسكو والغرب منذ انتهاء الحرب الباردة، ليبدو العالم، وأوكرانيا نفسها، بمنأى عن الاستقرار اليوم.
ومع ذلك، يعتبر الباحث الأكاديمي الأوكراني، إيغور سيميفولوس، أن بلاده تمكنت خلال الـ5 سنوات الأخيرة من قطع شوط كبير على طريق التكامل مع الغرب و"نزع الشيوعية"، مشدداً على أن تطبيع العلاقات مع روسيا بات مرهوناً بـ"إنهاء احتلالها القرم ودونباس". ويقول سيميفولوس، في اتصال مع "العربي الجديد" من العاصمة الأوكرانية كييف، "أعتقد أنه تم تحقيق الأهداف الرئيسية فيما يتعلق بالتكامل الأوروبي، إذ بات بإمكان الأوكرانيين السفر إلى أوروبا بلا تأشيرات دخول ومن دون الوقوف في طوابير أمام القنصليات، وهو أهم إنجاز بالنسبة إلى المواطنين العاديين. وبعد توقيع ومصادقة اتفاقية الشراكة، بدأت المنتجات الأوكرانية بغزو الأسواق الأوروبية. كما بات هناك تقارب وتفاهم وثقة متبادلة مع حلف شمال الأطلسي".
وفي مقابل التقارب مع الغرب، شهدت العلاقات الروسية الأوكرانية تدهوراً كبيراً على كافة المستويات، وصل إلى المواجهة العسكرية غير المباشرة شرق أوكرانيا، وقطع حركة الطيران بين البلدين، لكن مع استمرار التعاون في مجالي التجارة والطاقة في ظل ترانزيت الغاز الروسي عبر الأراضي الأوكرانية في طريقه إلى أوروبا. ويصف سيميفولوس الوضع الحالي للعلاقات بين كييف وموسكو، قائلاً "كانت روسيا وأوكرانيا بلداً واحداً سابقاً، وتربطهما علاقات قوية"، معتبراً أنه "لا يمكن إتمام إجراءات الطلاق بسرعة، لكن الحرب عجلت هذه العملية. لا مجال لتطبيع العلاقات إلا بعد إنهاء احتلال القرم ودونباس". وعلى الصعيد الداخلي، شهدت أوكرانيا قياماً لسلطة ذات توجهات قومية، وسط تجدد احتجاجات بين الحين والآخر، بما في ذلك ضد الرئيس الحالي، بيترو بوروشينكو، في العام الماضي. ومع ذلك، يعتبر سيميفولوس أن الوضع هذا العام بات أفضل وأكثر هدوءًا منه في العام الماضي، مرجعاً ذلك إلى تركيز كافة القوى السياسية على الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها نهاية مارس/آذار المقبل.
من جانب آخر، يعتبر كبير الباحثين في معهد بلدان رابطة الدول المستقلة في موسكو، يوري بارانتشيك، أن أوكرانيا حققت في السنوات الخمس الماضية أكبر "فشل" في مجالي السياسة والاقتصاد على حد سواء. ويقول بارانتشيك، لـ"العربي الجديد"، إن "أوكرانيا تعيش على وقع الحرب الأهلية وانهيار المنظومة وأزمة دائمة، بلا آفاق لمزيد من التكامل، لا مع الاتحاد الأوروبي ولا مع الأطلسي، لأن الجيش الأوكراني يحتاج إلى دعم كبير. ليس من مصلحة بروكسل مواصلة التكامل الاقتصادي مع أوكرانيا، لأن الاتحاد الأوروبي قد تمكن بالفعل من الدخول إلى السوق الأوكرانية بقوة". وحول مؤشرات لتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في أوكرانيا، يوضح بارانتشيك أن "هناك نحو أربعة ملايين أوكراني يعملون في الاتحاد الأوروبي ونفس العدد تقريباً في روسيا. مع تدشين خط السيل الشمالي 2 العام المقبل ستخسر أوكرانيا حصة كبيرة من ترانزيت الغاز الروسي، ولن تعود منظومتها لنقل الغاز مربحة بسبب ضعف الإشغال. في تلك الأثناء، يواصل بوروشينكو الأعمال الخاصة به في روسيا، أي تتم خصخصة الأرباح وتأميم الخسائر".
ومع تدهور علاقاتها مع كييف، عملت موسكو جاهدة في السنوات الماضية على الحد من الاعتماد عليها في نقل الغاز، ما اتضح بجلاء في سعيها لمد خط أنابيب الغاز "السيل الشمالي 2" لنقل الغاز إلى ألمانيا مباشرة، وكذلك "السيل التركي" الذي حضر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مراسم الانتهاء من أعمال بناء قسمه البحري في إسطنبول، أول من أمس. يذكر أن تظاهرات "الميدان الأوروبي" انطلقت قبل خمس سنوات، على خلفية تراجع يانوكوفيتش، الموالي لروسيا، عن التوقيع على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. واستمرت هذه التظاهرات حتى هروب يانوكوفيتش من البلاد في 22 فبراير/شباط 2014 بعد موجة من أعمال العنف أسفرت عن سقوط أكثر من 100 قتيل، لتبدأ أوكرانيا والعالم صفحة جديدة من تاريخهما تتسم بالمواجهة "الهجينة" الأكثر حدة منذ عقود.