أوروبا بين التسامح والتعصّب

12 يناير 2015

مسلمون يستمعون إلى خطبة صلاة الجمعة بمسجد باريس (سبتمبر/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -

يعيش في أوروبا قرابة 30 مليون مسلم، 20% منهم في فرنسا، حوالى 6 ملايين مواطن، أي ما يعادل 10% من سكان فرنسا، وهناك تجمعات كبيرة في ألمانيا وبريطانيا وبلجيكا وغيرها. هذا العدد كبير للغاية، ولا يمكن طرد هؤلاء المواطنين، أو إبعادهم إلى سيبيريا، كما فعل ستالين مع المعارضين والمزعجين. البديل الوحيد عن ذلك هو التعامل المنطقي والإنساني معهم. بدايةً، يجب التنويه إلى أنّ الحريات وحرية الرأي ليست مبادئ وقيماً أساسية لغالبية اللاجئين والأجانب المشرقيين، الذين لم ينسلخوا عن جذورهم الإسلامية، وأبقوا على الصورة التقليدية لمجتمعاتهم الأصلية، وفضّلوا المحافظة على الصورة النمطية الشرقية، لباساً وتقليداً، مهما ارتفعت كلفة ذلك. مثالاً، توقّف عائلات عديدة عن الاحتفال برأس السنة في أوروبا، ولا تجد حرجاً باستخدام المفرقعات في عيدي الفطر والأضحى، والانقطاع عن العمل في أيام شهر رمضان للصوم وإقامة الصلوات، بما في ذلك التراويح، واقتصار المعاملات التجارية والاجتماعية ما بين أبناء الأقلية المسلمة. 
تمكنت النساء الشرقيات، والمسلمات تحديداً في فرنسا، من الاندماج بسهولة أكبر من حشود الذكور، ونلن فرصاً كثيرة لإثبات الذات، سواء على صعيد السينما، مثل إيزابيل أدجاني، أو السياسي كالوزيرة رشيدة داتي، وغيرهما كثيرات. ويعود سبب ذلك إلى دعم حكومات الدول المعنية حرية المرأة من أصول عربية، ورفض عالم الرجولة الذي يتميّز به المشرق. وهذا لا يمنع، بالطبع، من تورّط بعض الشرقيات في عمليات إرهابية، شبيهة بعملية "شارلي إيبدو". وشهدنا كذلك ردّة فعل نجم كرة القدم الفرنسي الكبير من أصول جزائرية، زين الدين زيدان، حين شتمه المدافع الإيطالي، ماركو ماتيرازي، على الأرجح، شاتماً أخته، وشبّهته وسائل إعلام بعد تصفيات العام 2006 ببطل شكسبير الأسطوري، عطيل، لفرادة شخصيته. وربّما لم يفهم كثيرون البعد النفسي وتركيب شخصية المواطن العربي وفهمه للشرف والكرامة وردود الفعل العنيفة المتوقعة، حتّى وإن كان ثمن ذلك كأس العالم لكرة القدم.
الرسوم المسيئة للنبي محمد عليه السلام غير مقبولة بالطبع، ولا يمكن سوى لمغامر قبول الإساءة لرمز يمثّل مليار ونصف المليار مسلم، فوق هذه الأرض التي يقتسمها أتباع ديانات

مختلفة وعقائد مختلفة ومتباينة. الصور المسيئة للسيدة مريم العذراء والمسيح والرموز الدينية الأخرى مرفوضة كذلك. لم يأخذ مالكو صحيفة شارلي إيبدو في الاعتبار التحذيرات والإشارات العديدة التي قدّمتها المؤسسات الأمنية والسياسية، وحثّهم للتوقّف عن تحدّي مشاعر المسلمين، لكنّهم، وباسم الحرية، رفضوا الانصياع أو التوقف عن هذه التوجهات، وكانوا كماتادور يرفع رداءً أحمر في وجه ثور بصدر عارٍ، من دون درع، في حلبة مصارعة الثيران، من دون توقّع هجوم مضادّ من الثور، واستنكار عدائيته إن أقدم على ذلك. ولنا أن نتساءل هل الصور الكاريكاتيرية تعبير عن الحرية؟ نعم، هي كذلك للفنانين المعنيين ولمثقفين عديدين، والرسوم بمثابة دفاع عن حرية الإبداع، لكن، لكلّ شيء ثمن. إذا رغبت بفكّ لغم من دون استخدام أجهزة خاصة لإثبات شجاعتك، فهذا بالطبع منتهى الشجاعة، أمّا انفجار اللغم بين يدي الرجل المقدام فمسألة أخرى، عليه أن يراجع أبعادها وجدواها في العالم الآخر. 
تلفت الأنظار طريقة تعامل الأجهزة الأمنية مع اللاجئين الذين يجوبون شوارع محدّدة في العاصمة البلغارية صوفيا، مثالاً للإجراءات الأمنية في معظم العواصم الأوروبية. يطلبون، بدايةً، البطاقات الشخصية ووثائق اللجوء، ويمضون بالتحقيق مع الشخص المعني (غالباً وفق انتقاء عشوائي) قرابة نصف ساعة. لكن، لم يحاول المعنيون والخبراء النظر إلى الأسفل قليلاً. لم يحاولوا التعرّف على طبيعة حياة اللاجئين، وتفاصيل يومياتهم، الشوارع والمناطق التي يقطنها آلاف الشباب المهاجرين مغطّاة بأطنان من قشور المكسّرات، ويمكن التعرّف على أقنعة مثيرة للقلق، مرسومة على تضاريس وجوههم، رمزاً وتكريساً للامبالاة والتحدّي، ما يعني نقل حالة الفراغ النفسي والعملي والكآبة والإحباط من شوارع المدن والقرى العربية إلى العواصم والمدن الغربية، التي قدّمت لهم هامشاً محدوداً من الحرية الشخصية، لا يكفي للخلاص من دوامة الضياع واليأس والعدمية، وكذا انعدام وجود توجّهات حقيقية لدمج اللاجئين في المجتمعات الأوروبية، وفق استراتيجية واضحة واعدة. كما أنّ عدد الأطفال المنتظمين في المدارس الأوروبية محدود للغاية، ولا يتجاوز تعدادهم 5% (أوروبا الشرقية)، ويفضّلون البحث عن بدائل من دون تعلّم لغة الدولة المضيفة التي يعيشون في كنفها، وتجاوز ثقافة الغيتو ذات الأبعاد الخطرة للغاية.
مخاطر سيطرة اليمين المتطرّف
صرّحت الحركة الألمانية المعادية للإسلام PEGIDA "وطنيون أوروبيون ضدّ أسلمة الغرب" إنّ الحادث الإرهابي الذي شهدته باريس، أخيراً، يؤكّد المخاطر المصاحبة لأسلمة المجتمعات الأوروبية. وترى الحركة أنّ مأساة باريس أثبتت استحالة قبول اللاجئين مفاهيم الديمقراطية وقبول الآخر المختلف عقائدياً وفكرياً، وفشل مشروع تعدّد الثقافات التي نادت بتطوير أُسسه المستشارة أنجيلا ميركل، وغيرها من القادة الديمقراطيين في أوروبا. هناك احتمال كبير ومفهوم لتمكّن الأحزاب القومية المتطرفة من الفوز في الانتخابات المقبلة في دول أوروبية عديدة، إثر الحملة الإعلامية المركّزة التي صاحبت مطاردة قتلة الصحفيين في باريس، ومحاولات الانتقام العشوائي بحرق المساجد واستهداف اللاجئين. وتعارض الأحزاب القومية الانفتاح الذي أعلنه الاتحاد الأوروبي، وسمح لأفواج كبيرة من مواطنيه بحرية التنقل بين دول الاتحاد، بما في ذلك اللاجئين والمواطنين الذين يحملون الجنسيات الأوروبية.
عدا عن "بغيدا"، ارتفع الدعم لحركة AfD "البديل الألماني" المعارضة وجود اللاجئين فوق الأراضي الألمانية، وصرّح قادة الحركة إنّ الهجوم في فرنسا أكّد المخاوف المترتبة عن انتشار المفاهيم الإسلامية في الغرب، وللتخفيف من حدّة هذه التوجهات، صرّح وزير الداخلية الألماني، توماس دي ميزييه، إن لا علاقة بين الإسلام والهجمات في باريس. وبحسب استطلاع أجرته صحيفة غارديان البريطانية، أخيراً، فإن 61% من المواطنين الألمان يرون عدم وجود مكان للإسلام في ألمانيا.
ووصفت زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية، مارين لوبين، ما حدث باعتباره "إيديولوجيا قاتلة"، ودعت إلى التوقف عن النفاق في التعامل مع الإسلام الأصولي، وقالت إن دورها يتمثل بتجاوز حدود الخوف، وأضافت أنّ هذا الحادث يجب أن يحرّر الحديث والتعبير عن الإسلام الأصولي وعدم الوقوع في براثن الخوف، والتزام الصمت، معتبرة ما حدث عملية إرهابية باسم الإسلام الراديكالي. وتشير الاستطلاعات المبدئية إلى أن مارين لوبين قادرة على الحصول على

30% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية عام 2017 في فرنسا. 
وأعلن زعيم حزب الاستقلال اليميني البريطاني المتطرف UKIP، نايجل فرج، إنّ أوروبا تدفع ثمن التعددية الثقافية لعشرات السنين. وإن هذا التسامح سمح للأقليات المختلفة الحفاظ على ثقافتهم والإحجام عن الاندماح في المجتمعات الأوروبية، وطالب برفع أدوات وآليات رقابة اللاجئين واتخاذ سياسة حازمة بشأن سياسة اللجوء بشكل عام.
المسؤولية التاريخية تجاه المشرق
لا يمكن التشكيك بأهمية الديمقراطية التي تمكنّت القارة الأوروبية من تحقيقها وفرضها في الواقع، وهي أفضل ما تمكّن الفكر العالمي من إنجازه في شأن إدارة البلاد، وتطوير المجتمعات. لكن، هناك شروخ وعيوب كثيرة لازمت مسيرة هذه الحضارة، خصوصاً بشأن مواجهة قيم الآخر وقبول طريقة الحياة في العوالم الأخرى ذات الحضارة والثقافة والعقيدة والقوانين والعادات والتقاليد المختلفة.
استنكرت الحكومات والمؤسسات الرسمية والمدنية ودور الإفتاء والمثقفون وعموم فئات المواطنين في المشرق والمغرب الهجوم على "شارلي إيبدو" وقتل الصحفيين ورجال الأمن الفرنسيين. لكن، إذا حاولنا إحصاء عدد القتلى الذين سقطوا في اليمن وسورية والعراق وليبيا في اليوم نفسه لرأينا أنّ الفارق كبير للغاية، لكنّ الحياة مقدّسة في كلّ أنحاء الدنيا، وليس من الإنسانية في مكان التساهل بمقتل فرد واحد أو عشرة أو مائة وهكذا. كما انشغل الإعلام الأوروبي ليل نهار بمأساة "شارلي إيبدو" ووقف أعضاء مجلس الأمن دقيقة صمت، حداداً على القتلى الصحفيين. ونسأل: أين اختفى الإعلام إبّان قذف الصواريخ والعبوات المتفجرة فوق رؤوس المواطنين في العراق وليبيا وسورية وفلسطين وأفغانستان؟
وتنسحب مقولة "نهاية التسامح تعني الحرب" على المشرق والمغرب أيضاً، فلا يمكن التخلّي عن التسامح في التعامل بين أتباع الحضارات المختلفة، وخصوصاً بين الغرب المسيحي والمشرق الإسلامي. لا بديل عن ذلك، إذا أردنا أن تستمرّ ديمومة الحياة، وهناك قادة كثيرون فهموا أبعاد هذه المعادلة، علماً أنّ مئات آلاف المواطنين المغاربة غادروا إلى العمل إلى دول أوروبا الغربية، بدعوة من حكوماتها، للقيام بمهام صعبة في المناجم والمصانع، ولهم فضل جمّ في تقدّم المجتمعات الصناعية، وعلى الغرب أن يدرس أسباب عدم قدرة الأجيال التالية على الاندماج في هذه المجتمعات، والانزواء في مناطق مغلقة "غيتو"، يصعب دخولها بعد مغيب الشمس للمواطن الأوروبي الراغب بالحفاظ على سلامته.  
هل يرغب الغرب، حقيقةً، بالاستمرار في نهج الديمقراطية والتسامح؟ وكيف يمكن تفسير توظيف 80 ألف رجل أمن وطائرات عمودية وآليات مسلّحة وكافّة وسائل الإعلام الفرنسية والعالمية في ملاحقة ثلاثة مجرمين قتلة، صدر حكم الإعدام بحقّهم مسبقاً؟ علماً أنّ هناك المزيد من التهديدات الصادرة عن قادة القاعدة لمهاجمة أهداف في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، وهناك شباب كثير محبط، ومتحفّز لتنفيذ هذه المهمات، في سبيل الحصول على الشهادة، بل وأقل من ذلك بكثير.
وغالباً ما كانت الصحيفة الفرنسية الساخرة تخرج عن حدود اللياقة والأدب بشأن رموز الديانات والقادة السياسية، ولا تعرف حدوداً للنقد اللاذع. لكن، وكما كتب طوني باربر في صحيفة فايننشال تايمز، تجاوزت الصور واللوحات الكاريكاتورية حدود اللباقة والأدب، ولم تعد أداة للتعبير عن حرية الرأي، وبلغت حدّ الغباء بشأن الإساءة للإسلام والنبي محمد، وإنّ المنطق والعقل في التعامل مع هذه القضايا شديدة الحساسية يكفي للتوقّف في الوقت المناسب. كما رُفعت قضايا كثيرة ضدّ الصحيفة في المحاكم الفرنسية، من دون أن يتوقف الصحفيون عن هذا النهج باسم الحرية.
سارع أوروبيون كثيرون إلى إعلان موت مشروع التعدّد الثقافي في أوروبا، لكن هذه التوجهات خاطئة، لأنّ المثقفين هم القادرون على تقريب وجهات النظر والحيلولة دون رفع وتائر أوجه العنف بين الأقليات المختلفة في القارة الأوروبية. وعلى المعنيين تنشيط الحوار المشترك بين أعلام الحضارات المختلفة، لكي تتمكن الحكومات من فهم طريقة تفكير الأقليات المسلمة وغيرها في أوروبا، وحثّهم على فهم أسس الديمقراطية وقيم التسامح. علينا أن نذكّر بأنّ المحرّر مصطفى مراد كان أحد طاقم عمل صحيفة شارلي إيبدو، وهو مواطن فرنسي من أصول جزائرية، وأحد الصحفيين الذين قضوا في الهجوم على مقرّ الصحيفة.
الردّ الصحيح على حالة الخوف التي قد تعصف بمعظم أنحاء القارة الأوروبية هو الانفتاح على الأقليات، وعدم الانجرار خلف دعوات الأحزاب القومية المتعصّبة التي ترفض وجود اللاجئين فوق أراضي القارة القديمة، بغضّ النظر عن الدوافع التي أدّت إلى موجات الهجرة، والتعامل مع جذور هذه المشكلة، بدلاً من الاكتفاء بالتعامل مع نتائجها.
                  


 

59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح