أنيسة التي فقدت وطنها وابنها

03 ابريل 2016
لا تريد من هذه الحياة إلاّ ابنها (العربي الجديد)
+ الخط -
تصف الحاجة الفلسطينية أنيسة عبد الرحمن الخطيب مدينتها حيفا المحتلة عام 1948، بأنّها "جنة الله على الأرض". المدينة التي تزوجت فيها في ستينيات القرن الماضي، قبل أن ترحل عنها مع زوجها إلى شفا عمرو القريبة منها.
كان أهل زوجها يملكون أراضي شاسعة، وكانوا يفلحونها ويبذرونها ويعيشون من خيراتها. وشفا عمرو التي تضم نسبة كبيرة من عرب الداخل الفلسطيني المحتل تتميز بالنشاط الزراعي، وتنعم أراضيها بأشجار الزيتون.

لكنّ المدينة والبحر والأرض ورائحتها، ذهبت كلّها إلى غير رجعة بالنسبة إلى الحاجة. فقد تركت فلسطين في السابعة عشرة من العمر مع زوجها، وكانت شفا عمرو تخضع كغيرها من أراضي الداخل للحكم العسكري المباشر. بعد انتهاء حرب عام 1967، فتحت المعابر إلى الضفة والأردن.
لجأت مع زوجها وابنها الوحيد إلى لبنان. كان الزوجان خائفين على ابنهما الذي أصيب بمرض، فهربا به على أمل علاجه في لبنان بطلب من العائلة. حملا بعض المتاع والمصاغ وذهبا أولاً إلى بنت جبيل (جنوب) ومن بعدها صور على ساحل لبنان الجنوبي.

بات الثلاثة ليلتهم الأولى في صور في الشارع على الرغم من أنّ "ربّة المنزل في بيت أحد أكابر المدينة طلبت منا الدخول واستضافتنا لديها". رفض الزوجان ذلك، وانتظرا الصباح ليبحثا عن منزل يستأجرانه، ظناً منهما أنّ الغربة لن تطول. مفاتيح بيتهما في شفا عمرو معهما، وكل أغراضهما ظلت فيه. لم يحضرا معهما إلاّ البسيط. لكنّ الغربة طالت. مات زوج الحاجة أنيسة وابنها الوحيد في الغربة، وما زالت تنتظر وحيدة العودة إلى فلسطين.

مرّ عام كامل على العائلة وهي في ذلك البيت المستأجر. خلاله، لم يعثر الزوج على عمل بعدما كان أمين مستودع في شفا عمرو. اضطر إلى العمل في صيد السمك وبيعه. قدّم لهم أحد الرجال المعروفين في المدينة قطعة أرض صغيرة في منطقة البصّ محاذية للبحر. هناك، بنوا غرفة صغيرة قطنوا فيها عوضاً عن البيت المستأجر. بقوا حتى تاريخ الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. حينها فقط وبسبب قصف الطائرات لبيتهم والبيوت المجاورة، اضطروا إلى ترك المنطقة والتوجه نحو مدينة صيدا (جنوب). من بعدها هربت الحاجة أنيسة إلى سورية، لتقطن مع ابنها فترة عند أهلها الذين كانوا قد لجأوا إلى سورية، ريثما يؤمّن زوجها بيتاً يعيشون فيه.
بعد الانسحاب الإسرائيلي من صيدا عام 1985، عادت لتعيش في وادي الزينة القريبة مع ابنها وحدهما، فقد مات زوجها.

لم تتلق الحاجة أنيسة أي تعليم، فهي تزوجت في عمر صغير. وتقول: "كانت الفتاة الجميلة في البلاد تحرم من التعليم وتزوَّج بدلاً منه".
بعد عودتها مع ابنها إلى لبنان، أصرّت على استكمال تعليمه. وبالفعل، تمكنت من إرساله إلى مصر التي كان يفضّل أن يدرس فيها، بعدما باعت كلّ مصاغها الذي بقي معها منذ رحيلها عن فلسطين. وعاد ابنها ناجحاً متفوقاً يحمل شهادة عليا في اللغة العربية وآدابها. بعدها، سافر إلى السعودية من أجل العمل، وعاد إلى لبنان للزواج وتأسيس أسرة. وقد عاشت والدته معه.

لم تكن نهاية القصة سعيدة أيضاً، فبعدما رزق ابنها بخمسة أولاد، "مات في عز شبابه". تقول: "خرجت به من فلسطين لعلاجه، فمات في لبنان. ولم يعد أحد منا إلى بلادنا".
يوم وفاة ابنها، لم تحتمل العيش في منزله مجدداً. ذهبت إلى سورية وعاشت فيها فترة طويلة لدى أهلها قبل عودتها مجدداً إلى لبنان مع الحرب السورية التي اندلعت عام 2011.
تتمنى الحاجة لو ماتت بدلاً من ابنها: "أنا الختيارة، وهو ما زال شاباً يفترض أنّ أمامه حياة مديدة". تعيش اليوم وحيدة في بيتها في وادي الزينة. جاراتها يزرنها بشكل مستمر كلما تسنى لهن ذلك. كذلك، فإنّ بعض أفراد عائلتها الذين جاءوا إلى لبنان يقدّمون لها كلّ ما تحتاجه من دعم مادي ومساعدة.

لم تبقَ للحاجة أنيسة العجوز الحزينة، إلاّ الذكريات وهي بعيدة عن أرضها ووطنها. اليوم لا تريد من هذه الحياة إلاّ ابنها الذي غادرها.

المساهمون