أغاني "الحرّاقة".. فنّانون جزائريون يتغزّلون بـ الزوارق

24 يوليو 2017
(على مقربة من ميناء تامنتفوست/ الجزائر، الصورة: فرانس برس)
+ الخط -
الهجرة غير الشرعية "أو "الهجرة السرّية" أو "الحرقة" كما يطلق عليها في الجزائر وبعض الدول المغاربية، بغضّ النظر عن كونها جريمة يعاقب عليها القانون في بعض الدول، إلا أنّها قصّة حزينة تعكس واقعًا مأساويًا وقاسيًا تعيشه الشعوب، تبدأ فصول رحلتها الطويلة عند ركوب الأمواج والتوجّه نحو الضفّة الأخرى من شمال المتوسّط أو كما تسمّى "الجنة الموعودة"، هذا الحلم الذي تكون شرارته الأولى في بعض الأحيان الأغاني التي تتقاسم الحزن وحكايا الغرق والموت وتردّدها حناجر شباب عاش المرّ.

في الجزائر، تتزايد ظاهرة "الحرقة" بأرقام مخيفة في غياب الإحصاءات الرسمية، كل يوم تطالعنا الصحف عن توقيف عشرات المهاجرين غير الشرعيين "الحرّاقة" في عرض البحر وفقدان آخرين، وتتقدّمها صور أليمة ومحزنة ترّسخت في الأذهان، وكتبت في دفتر الذكريات ما ذرفته الأمهات من دموع يوزاي عرضها البحر على فلذات أكبادهن. عن شباب لم يبق من أجسادهم سوى أشلاء نهشتها الأسماك، وجثث منتفخة بجلود ممزّقة تطفو على حوض المتوسط، وقوارب متناثرة أو ما بقي منها من أخشاب بالية، ودلاء البنزين بين الأمواج العاتية وحكايا مطاردة خفر السواحل لقوافل "الحراقة" وهم يغادرون الزوارق نحو اليابسة بحثًا عن ملجأ آمن، وتوقًا إلى الحرية وشاطئ آمن.


قوارب للموت أو للنجاة
هذه المشاهد القاتمة والغارقة في السواد، المنقولة يوميًا على صفحات الإعلام المكتوب وشاشات الفضائيات، بتضخيم في غالب الأحيان، وبحقيقة أقل في أحيان أخرى، تنسجها أغاني "حرّاقة" جزائريين وفنانين شباب بحبكة مغايرة مؤثّرة، تعتمد على الصورة الصادقة والصوت ولحظة الحدث المؤلمة، ممّا يجعلها تخلّف أثرًا كبيرًا في الملتقي سواء كان من عائلات "الحراقة" أو من باقي أفراد المجتمع الذين يستمعون إليها ويشاهدون المهاجرين غير الشرعيين وهم يهمّون بركوب ما يعتقدون أنّه "قارب النجاة"، وهربًا من الحياة القاسية والتعيسة التي يعيشونها في بلدانهم رغم أنّ الإقبال عليها أو اللجوء إلى هذا الخيار يُعتبر شخصيًا ربّما يعود إلى الوضع الذي يصفه بالمرير والمزري في بلاده أو لخوفه من المصير أو الشعور بالخوف أو لاعتقاده أنّ من بلغ الضفّة الأخرى يعيش حياة رغيدة وهنيئة لذلك تبقى دوافع "الحرقة" مختلفة ومتعدّدة ولا ترتبط بسبب واحد فقط.

وداعًا عنّابة
من الأغاني المتداولة بشكل كبير على موقعي يوتوب و فيسبوك، إلى جانب فيديوهات لـ"حراقة" نجحوا في بلوغ الشاطئ الآخر، أو لمجموعة من "الحراقة" وهم يودّعون رفاقهم بالوطن الأم..أغنية باللهجة الجزائرية بعنوان "حكاية مهموم" تؤدّيها فرقة هاوية تسمى "هيبو" تقول فيها: "في وسط لبحر بين الأمواج والرمل غير ربّي لي عالم وين راني، جيت اليوم نحكي حكاية محكوم، كنت ناوي الخير شوفو واش صرالي" ( وسط البحر بين الأمواج، لا يعلم بي إلا الله تعالى، جئت اليوم لأحكي قصّة مهمووم، نويت الخير لكن أنظروا ما حدث لي)

تبدأ الأغنية بمطلع يذكّر بالثورة الجزائرية وبالشهداء الذين ضحوا من أجل هذه البلاد، في إشارة إلى أن المسؤولين اليوم لم يحفظوا هذه الأمانة، فكانت النتائج وخيمة على الشباب، إذ تقول الأغنية: "بلادي ضحّى عليها الرجال، مليون ونصف المليون شهيد، حاربوا وحققوا لنا الاستقلال، واليوم نعيش في فراغ".

وتستطرد كلمات الأغنية في وصف واقع الشباب اليوم، بين البطالة والمعاناة ومظاهر الفساد في السلطة فتقول: "أبواب الخير كلها مغلقة، السرقة، الرشوة والموالاة، انتهى الأمر وبلغ السيل الزبى، ولن أعيش وسط الجيف، منذ صغري وأنا أعاني، كم كان الأمر صعبًا، فكرت في الغربة لأضمن مستقبلي مادامت صغيرًا، حقيقة كم هي صعبة "الحرقة"، سنلتقي في ساعة خير، وداعًا عنّابة (محافظة ساحلية تقع في أقصى شرق الجزائر) أنا ذاهب الآن، اعتنوا بأبي وأمي، الدمعة سالت والقلب حزين، لدينا محرّك وجهاز تحديد الاتجاه وأصحابي مجتمعين، لم أستطع توديع والداي، آمل أن أصل بخير، أرجو أن تسامحيني يا أمي ولدك لم يقم بهذا العمل عن قصد..أكيد ستقولين ذهب وتركني، ونحن في عرض البحر اختلطت الأمور وحدث ما حدث، أمين ولمين و رمزي اختفوا وسط البحر.. رحمكم الله.. لستم الأولين ولستم الأخيرين، عنّابي "حراق" إلى اليوم الدين".

الهروب لمن استطاع..أمّي ما تبكيش
وجاء في أغنية أخرى تحمل الأمل وتشجع على الحرقة معًا لفرقة تسمّي نفسها "ليبرتا" عنوانها:"gawria mi amoré" (الأوروبية حبيبتي.. الهرب لمن استطاع): " حبيبتي الأوربية نارها في قلبي قوية..في بلادي أنا أسف، المستقبل سيكون من خلال الأجنبية، انتظريني أنا قادم..أمضيت صغري معك (عبر النت) تذكريني..في مرسيليا أو باريس السهرة رائعة، أنسى همومي وأعمل وأبني مستقبلي، أتزوّج وأنجب أطفالًا وأعود إلى وطني الجزائر، يا والدي يا أعزاء أرضوا عني فقط، أعيش الغربة في بلد غريب، في بلدي عشت مريضا...".

ويوجه أحد الحراقة رسالة إلى أمّه في أغنية يقول فيها حزينا: "أمي اسمحي لي، أنا ذاهب إلى الغربة ولا أدري إن أعود أم لا، فقط أرجو دعاءك لأصل إلى هناك، في وطني أنا ضائع منذ فتحت عيني وأنا أعيش الهم والغمّ و"الحقرة" في بلادي صبح مساء..".

"البابور" و"فلوكة" وGPS
هي عينة لأغاني عديدة عن "الحراقة" ومآسيهم في البحر، وفي أوطان لم يلتفت فيها المسؤولون إلى قدراتهم، لم يمنحوهم نصيبًا، منحوهم بطالة ومرارة، منحوهم سجنًا وأكفانًا عائمة، لذلك غادروا، أغانيهم لا تضمّ سوى حزن الرحيل وما يتبقى من ذكرياته داخل جدران المنازل وأفئدة الأمّهات والآباء، دفعتهم الأوضاع المعيشية إلى خيار الغربة أو بالأحرى "الحرقة"، هجّرهم استعمار البطالة والبيرقراطية، رفضوا الاستسلام للواقع وآثروا الموت من أجل بناء أحلام قد تتحقّق وقد لا تتحقق.

وقد سبق قبل انتشار ظاهرة "الهجرة السرّية" إذ قدّم فانون جزائريون أغاني عن المهجر والرغبة في ترك البلاد من أجل عيش حياة جميلة في الخارج وعلى سبيل المثال غنّى فنان الراب الجزائري الشهير بـ"لطفي دوبل كانو" أغنية عنوناها بـ"رانا مشينا حراقة بصح الله غالب"، وفي السبيل ذاته سار على دربه الفنان رضا الطالياني عندما غنّى " البابور يا مون أمور" (السفينة حبي)، وغيرهم من الأصوات الشبابية التي لا تخلو أغانيها من مفردات تدل على الهجرة وحب العيش في أوروبا تحديدًا منها أغنية "السفينة"، "الفيزا" (التأشيرة)، "فلوكة وجي بي آس" (قارب وجهاز تحديد الإتجاه)...وغيرها.

كما تشكّل الأغاني جزءًا من قصة "الحرقة"، تلعب أيضا الفيديوهات الكثيرة على موقع يوتيوب المصورّة لحظة انطلاق مواكب الحراقة من شواطئ محافظات عنابة أو من وهران أو من مستغانم والشلف وعين تيموشنت صوب أوروبا أو أهازيجهم وهي تعلو سماء الحوض المتوسّط أو عند اقترابهم من شواطئ سردينيا أو لامبيدوزا أو إسبانيا...دورًا مهمًا في هذه الرحلة سواءً بإبراز حياة هؤلاء المغامرين أو بالتأثير على المتلقي من عائلاتهم ومجتمعهم الذي يشاهدهم وهم "يفرّون" من وطن ولدوا به وترعرعوا في جنبات شعابه وسهوله ووديانه وأزقته وكبروا فيه كما السنابل في حقول القمح والشعير.

"الحراقة" بين البحر والقانون
وتسجّل الشواطئ الجزائرية الشرقية القريبة من إيطاليا، والغربية المطلة على اسبانيا خصوصًا في موسم الاصطياف، محاولة المئات من المهاجرين، ركوب قوارب الموت، بعضهم أفارقة جاؤوا من أقاصي القارة السمراء. وعادة ما يكون من بينهم نساء وأطفال. ويكثّف حرس الشواطئ من دورياته الليلية في عرض البحر المتوسط، في هذه الفترة من العام وغالبًا ما ينقذ حياة عشرات المهاجرين من الغرق.

والجدير بالذكر أنّ البرلمان الجزائري أدخل تعديلًا على قانون العقوبات عام 2008، يتضمن موادً تجرّم الهجرة السرية، فالعقوبة قد تصل إلى 6 أشهر سجنا نافذا ضد أي شخص متلبس بتهمة الهجرة غير الشرعية. أما الأشخاص الذين يتلقون مالًا مقابل تسهيل عمليات "الفرار الجماعي" في البحر، فعقوبتهم تصل إلى 10 سنوات سجنًا، لكن أثار هذا القانون جدلًا واسعًا في الجزائر ولقي انتقادات حادة، حيث وصفه البعض بأنه يحدّ من حقّ الإنسان في حريّة التنقل والإقامة والعيش.

المساهمون