09 سبتمبر 2024
أخطاء من الثورة السورية.. نقاش مع برهان غليون
لممارسة النقد الذاتي الموضوعي لمسار الثورة السورية ومآلاتها قدر كبير من الأهمية، الأمر الذي يدفع إلى نقاش أفكار وردت في مقال المفكر السوري برهان غليون، "هل يفتح يأس السوريين باب الحوار الوطني المسدود؟" ("العربي الجديد" 13/7/2017)، حيث يعرض غليون، في مقاله، أخطاء في الثورة السورية التي ساهمت، حسب رأيه، في الوصول إلى ما نحن عليه اليوم. وهنا مناقشة بعض النقاط:
التعويل على الخارج
يستهل غليون مقاله بالإشارة إلى تقاعس المجتمع الدولي وتجاهله المجزرة المرتكبة بحق السوريين على مرأى العالم ومسمعه، ما يعيد إلى الأذهان الصمت الدولي عن مجازر أخرى وقعت في أنحاء متفرقة من العالم، لكنها كانت مخفية ومستترة، فقد ساهمت ثورة الإعلام والتكنولوجيا في نقل جميع تفاصيل الإجرام الأسدي بحق السوريين إلى جميع بقاع الأرض، الأمر الذي كان يعزّز من الاعتقاد باستحالة صمت المجتمع الدولي عنها، لا سيما في ظل القيم والمبادئ الإنسانية التي يدّعي المجتمع الدولي حمايتها ونشرها، والتي كشفت غالبية السوريين، بتجربتهم الذاتية، كذب هذه الادعاءات وافتراءها. لكن، وعلى الرغم من صوابية التوصيف المذكور، إلا أنه ينطلق بشكل غريب من اعتبار التعويل على انتصار المجتمع الدولي لقيم العدالة والحرية والإنسانية خطأ عاما لجميع السوريين بقوله "كان هذا هو الفخ الذي وقع فيه السوريون، ولا يزال أغلبهم، وفي مقدمهم الناشطون، غير متحرّرين من وهمه بعد".
بمعنى آخر، يشير غليون، بشكل لا لبس فيه، إلى أن الثورة السورية برمتها سارت في نسق انتظار العون والمدد الخارجي، استناداً إلى قناعة الشعب السوري، وربما شعوب العالم أجمع، بإنسانية المجتمع الدولي ومبدئيته، وهو أمر يحتاج تدقيقا وتفنيدا كثيرين، فعلى الرغم من اتفاقي مع اعتبار التعويل على تدخل دولي هو من أوائل الأخطاء في الثورة السورية، إلا أن الاكتفاء بالإشارة إلى الخطأ، واعتباره نتيجة منطقية للاعتقاد السائد بين مجمل السوريين والناشطين، من دون أن يشمل النقد والتحليل الإشارة إلى من يتحمّل مسؤولية هذا الخطأ، يمثل استمرارا للنهج التجريبي والعبثي في التعامل مع الثورة السورية، وعرضا جزئيا للحقيقة، مع طمس أبعادها الكاملة، فعلى أي محاولةٍ نقديةٍ جدية إيضاح الخلل وأسبابه ودوافعه ومسببيه، بشكل واضح وحاسم، كما عليه تفنيد تبعات الخطأ، المحلية منها والدولية.
لذلك، ولإعطاء صورة شبه شاملة وعلمية عن هذا الخطأ، لا بد من العودة إلى بدايات الثورية السورية التي حملت شعارات عفوية ومناهضة للاستعانة بالخارج، من قبيل "لا أميركا ولا
إخوان"، فضلاً عن الشعارات التي تعبر عن حامل الثورة، وعن الفئة المستهدفة منها، مثل "واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد"، وبعض الشعارات والممارسات التي وجهت، وبوضوح شديد، ضد المافيا الحاكمة اقتصاديا وسياسيا وأمنيا، كاستهداف عدد من مباني الطغمة الاقتصادية الحاكمة، وبعض المباني الأمنية والتعبوية، لتعكس هذه الشعارات العفوية وعي السوريين بضرورة وحدة جميع مكونات الشعب الاجتماعية، في مواجهة المافيا الحاكمة، بقواها الذاتية فقط. وإن كنا لا نستطيع إهمال تأثير الآلة الإجرامية الأسدية في تغيير الوعي الشعبي، بيد أن الممارسة السياسية والخطابية والتعبوية والإعلامية الأقرب إلى الشعب السوري ما بعد بدء الثورة، والمستمدّة من خطاب بعض السياسيين المعارضين، وبعض القوى التقليدية، وفي مقدمتها الإخوان المسلمون، عبر جميع القنوات الفضائية المتعدّدة، والمحسوبة على المعارضة السورية، وعلى الدول الإقليمية والدولية المكونة ممن يعرفون بأصدقاء الشعب السوري، قد دفعت وبكل الجهود الذاتية والموضوعية التي تتوفر لها من أجل رفع شعارات مثل، جمعة الحظر الجوي، وتصويره سبيل السوريين الوحيد للخلاص من آلة الإجرام الأسدية، وتحقيق الانتقال الديمقراطي المنشود.
وبناءً عليه، هل يصح رد حالة التعويل على التدخل الخارجي إلى الاعتقاد الشعبي السائد، أم لا بد من تحميل القوى السياسية والمنابر الإعلامية الخاضعة لها مسؤولية التأثير السلبي على الوعي الشعبي السائد، ومن ثم مسؤولية الانجرار وراء أوهام التدخل الخارجي، إلا إن كان المقصود أن غالبية الأجسام السياسية التقليدية، وتلك المنبثقة ما بعد الثورة السورية، كانت وما زالت تمارس المعارضة بطريقةٍ غير منهجية، بدلاً من انخراطها في العمل السياسي الحقيقي والثوري!
نحو التأثير على روسيا
يعرض الدكتور برهان غليون الموضوع باعتباره تحولا في سياسة المعارضة السورية، وكأنه تحول جذري واستراتيجي، على خلفية اكتشاف المعارضة عبثية سياسة التعويل على المجتمع الدولي ووهميتها، لكنه في الواقع تحوّل نحو الخطيئة السياسية الثانية، كما يؤكد غليون أيضا، والتي تتمثل في الانتقال من انتظار وقف آلة القتل الأسدية (والمليشيات والقوى المتحالفة معها)، وانتظار دعم مسيرة السوريين نحو الحرية والديمقراطية، عبر موقف دولي حازم وحاسم وواضح، إلى محاولة العمل السياسي السوري على ثني الروس عن دعم آلة الإجرام الأسدية، ودفع الأسد إلى القبول بالانتقال السياسي، حيث ما لبث أن أصبح الموقف الروسي ذريعةً لأصدقاء الشعب السوري، لتبرير تقاعسهم عن ممارسة الضغوط الحقيقية على نظام الأسد، والتي نجدها في مقال غليون كما يلي "حتى تقلصت خطة العمل السياسي الثوري بمجموعه تقريبا إلى البحث في وسائل ثني روسيا عن موقفها المعارض لاتخاذ أي قرارٍ يفرض على النظام التحرّك في اتجاه الانتقال السياسي، أو يمكّن، أقل من ذلك، من تشكيل ضغط قوي على النظام السوري".
ومرة أخرى، أتفق مع المقال بالإشارة إلى الخطأ المشار له، مع اختلافي معه بشأن تهميش
جذر المشكلة، وتهميش منطلقاتها وفاعليها الحقيقيين من ناحية، وفي اعتباره تحولا مفصليا في سياسة المعارضة السورية من ناحية أخرى. حيث يعكس تحول العمل السياسي السوري المشار إليه في المقال أوهام النخبة السياسية المعارضة في القدرة الإعلامية والخطابية على التأثير على مسار السياسة الدولية، ومنها الروسية. والتي تعكس، من جهة، استمرار تعويل هذه الأطراف على المجتمع الدولي (بداية باللهاث خلف أميركا ومن ثم خلف روسيا) من دون أي اعتبار للأسباب الحقيقية خلف السياسات الدولية والمتجسّدة في مصالح الدول الفاعلة، وغاياتها وطموحاتها، روسية كانت أم أميركية أم أوروبية، وكذلك الأمر إقليميا. في حين تعكس، من جهة أخرى، المنطلقات الفكرية والسياسية الخاطئة لقوى المعارضة السورية الفاعلة (خصوصا الإخوان المسلمين والمجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وغيرهم) التي عملت، منذ اليوم الأول للثورة، على إضعاف السيرورة الثورية الشعبية، وطمستها لاحقا على حساب تعميم الجانب العسكري والإنساني فقط، خدمة لخطيئتهم الأولى، والمتبعة حتى اليوم، والمتمثلة في إهمال قوى الشعب الذاتية، وانتظار المدد والعون الخارجي فقط.
القضية السورية إنسانية فقط
جاء مقال برهان غليون عن تحول القضية السورية من سياسية إلى إنسانية "لم يعد لعرض مشاهد العنف المروّعة وتوثيقها أي أثر إيجابي على سياسات الدول والحكومات. بل تحولت القضية بسرعةٍ من قضية سياسية إلى قضية إنسانية، وتركّز الحديث فيها في مسائل الإغاثة ومساعدة اللاجئين واستقبالهم هنا وهناك، وترك الفاعل الرئيسي وموقد الفتنة والنار حرا طليقا، وصرف النظر عن تسليحه، وتعزيز قدراته من حلفائه. ومع مرور الوقت، لم يعد القتل الجماعي والتنكيل بالناس وتشريد الملايين وقتل الأطفال يثير أي رد فعل، أو حتى اعتراضٍ، من المجتمع الدولي". والتي يبدو أن المقال يعزوها إلى خطيئة الاعتقاد الشعبي الطبيعي (لا يعتبرها المقال خطيئة القوى السياسية)، في انتظار المدد الخارجي. تشكل هذه الخطيئة الرئيسية التي قامت على أنقاضها أخطاء جوهرية عديدة، لتشكل جملة من هذه الأخطاء الجوهرية الأسباب الرئيسية في تحول القضية السورية إلى قضية إنسانية، ومنها طمس الحركة الثورية المدنية، وتدميرها لصالح تعظيم الصراع العسكري، والذي غالباً ما تم إلباسه لبوسا طائفيا مقيتا (من دون إنكار دور المجموعات الطائفية في الصراع، غير أن تحويل الصراع إلى صراع سني ونقيضه، أو صراع إسلامي مع نقيضه هو خيانة للثورة الشعبية التي انطلقت من أهدافٍ سياسية واقتصادية شاملة، من دون وجود لأي أبعاد طائفية أو دينية)، فضلا عن اقتصار نشاطات المعارضة المنظمة وممارساتها على تصوير مشاهد القتل والدمار اليومية وعرضها، بهدف تهييج مشاعر الشعوب العالمية، ودفعها إلى الضغط على حكوماتها من أجل التدخل المباشر في سورية، والتي تعكس أوهام المعارضة في دور الإعلام وحجمه في رسم السياسات الدولية، لنصبح اليوم (منذ مدة) أمام صورة نمطية إعلاميا، تتلخص في وجود مدنيين مختلفي الانتماءات العرقية والإثنية، هم ضحايا مباشرون للصراع العسكري الحاصل، والذي تم ترويجه صراعا دينيا أو طائفيا. وإن كانت البداية انطلاقا من رغبة أطراف في المعارضة في إظهار طائفية النظام، وطائفية حلفائه الإقليميين، إلا أن التكرار الدائم لهذه الأسطوانة الطائفية، وترافقها مع إشادتهم الإعلامية والسياسية بجميع القوى الجهادية الأصولية، ذات الطابع السني، واعتبارها جزءا عضويا من المعارضة السورية، والتي ترافقت كذلك مع تهميشٍ كاملٍ لأي حركة ثورية شعبية، ذات طابع وطني، قد شكلت جميعها الأرضية المنطقية لغياب القضية السياسية السورية، أي تغييبها كثورة إعلاميا "ودوليا"، وحصرها بصراع مجموعاتٍ مسلحةٍ غوغائيةٍ وإجرامية، بغض النظر عن مدى إجرامية كل منها، ليضحى الشعب السوري، وبكل أطيافه، الضحية الوحيدة لهذا الصراع البغيض، وتتحول الثورة السورية إلى قضية لاجئين ونازحين وضحايا للإرهاب المنظم والغوغائي فقط، أي تحوّلت القضية السورية إلى قضية إنسانية فقط، لبشر يطحنهم صراع عبثي طائفي.
العودة إلى الواقعية السياسية
ينتهي مقال الدكتور برهان غليون إلى اعتبار الثورة السورية ضحية عودة المجتمع الدولي إلى مذهب الواقعية السياسية، بقوله "عودة ما يسمى مذهب الواقعية السياسية، أي البحث عن تعظيم المصالح لكل دولة، مهما كان الثمن، وخارج أي اعتبار أخلاقي أو سياسي، وبصرف النظر
عن مصير العالم ككل، وشعوبه الضعيفة خصوصاً"، وكأن الثورة السورية قد جانبها الحظ قليلا، نتيجة ترافقها مع تحول دولي، تلخص بعودة السياسة الدولية إلى مذهب الواقعية السياسية، وهو ما يفسر تأخر السوريين (وفقا للمقال كل السوريين) في إدراك أبعاد السياسة الدولية الجديدة! فهل حقا نحن ضحايا التحول العالمي، أم أننا ضحايا إجرام النظام السوري، وضحايا أوهام المعارضة السورية، حيث يقفز المقال بصورة غريبة من خطأ استراتيجية التعويل على الخارج إلى تحول السياسة العالمية، وكأننا كنا في مرحلة انتصر بها المجتمع الدولي للغة الحرية والعدالة ونصرة المستضعفين، من دون أي اكتراث للغة المصالح الضيقة، وها هو اليوم يعود، على غفلةٍ منا، إلى لغة المصالح القومية الضيقة، وهو ما يدفع إلى سؤال غليون: هل انتصر المجتمع الدولي في أي يوم لمعاناة الفلسطينيين ولحقوقهم، أو لشعوب العالم الثالث خصوصا، وهل كان تدخل المجتمع الدولي في بعض الحالات نصرة للمستضعفين، أم تحقيقا لمصالح القوى المتدخلة، كالعراق وأفغانستان وليبيا وغيرها الكثير؟
الحوار الداخلي
في النهاية، يأمل غليون في أن تدفع الظروف الدولية المذكورة السوريين إلى استنهاض قواهم المادية، "علينا أن نعود إلى تلمس إمكانية تفعيل نوابض القوة المادية والمعنوية في مجتمعاتنا، والعمل على تعزيز فرص الحلول الداخلية، وربما البدء بتكوين لجنة اتصالٍ وطنية، مهمتها القيام بالمشاورات الأولية لاستكشاف إمكانية فتح حوار وطني منتج، على مستوى المجتمع المدني، يمهد في المستقبل لبناء تفاهمات والإعداد لعهد وطني جديد، يختم حقبة الحرب، ويؤسس لحقبة ما بعد الأسد وإنهاء التدخلات والاحتلالات الأجنبية جميعا". ولا يرشدنا المقال إلى المنطلقات الرئيسية لاستنهاض قوتنا المادية الداخلية، المنطلقات التي أهملتها المعارضة السياسية (الإخوان والمجلس الوطني والائتلاف) حتى اليوم، والمتمثلة في استنهاض المجتمع السوري، انطلاقا من مصالحه الوطنية والقومية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي يعني إعادة الاعتبار لأهداف الثورة السورية كاملة، ونبذ الخطاب الطائفي الضيق، ونبذ خطاب تقزيم الثورة، بحصرها في مطلب الحرية والديمقراطية، مع الإهمال المقصود لأهداف السوريين، الاقتصادية والاجتماعية والتنموية.
واجهت الثورة السورية، ومنذ يومها الأول، تحالفا عالميا داعما لإجرام الأسد، بعضه علني وبعضه مستتر خلف فزاعة العجز عن التدخل. كما طعنت الثورة السورية في ظهرها من القوى السياسية السورية التي تعلقت بأوهام وأحلام كاذبة، وانتهجت سياساتٍ لاوطنية، وبعضها طائفية ورجعية، كالتعويل على الخارج، واعتبار المجموعات الجهادية والأصولية مكوّنا رئيسيا من مكوّنات الثورة السورية، هذه السياسات التي تتناقض مع منطلقات الثورة السورية ذاتها، والتي بنيت على أوهام ومصالح فئوية ضيقة، ومصالح الداعمين الإقليميين والدوليين. وهو ما يحتاج لتفنيده بوضوح وعلمية دقيقة جدا من أجل العمل على بناء الجسد السياسي الثوري الذي يعبر عن الثورة، وعن الشعب السوري بكل أطيافة ومكوناته، كما يعبر عن طبيعة النظام المنشود، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
التعويل على الخارج
يستهل غليون مقاله بالإشارة إلى تقاعس المجتمع الدولي وتجاهله المجزرة المرتكبة بحق السوريين على مرأى العالم ومسمعه، ما يعيد إلى الأذهان الصمت الدولي عن مجازر أخرى وقعت في أنحاء متفرقة من العالم، لكنها كانت مخفية ومستترة، فقد ساهمت ثورة الإعلام والتكنولوجيا في نقل جميع تفاصيل الإجرام الأسدي بحق السوريين إلى جميع بقاع الأرض، الأمر الذي كان يعزّز من الاعتقاد باستحالة صمت المجتمع الدولي عنها، لا سيما في ظل القيم والمبادئ الإنسانية التي يدّعي المجتمع الدولي حمايتها ونشرها، والتي كشفت غالبية السوريين، بتجربتهم الذاتية، كذب هذه الادعاءات وافتراءها. لكن، وعلى الرغم من صوابية التوصيف المذكور، إلا أنه ينطلق بشكل غريب من اعتبار التعويل على انتصار المجتمع الدولي لقيم العدالة والحرية والإنسانية خطأ عاما لجميع السوريين بقوله "كان هذا هو الفخ الذي وقع فيه السوريون، ولا يزال أغلبهم، وفي مقدمهم الناشطون، غير متحرّرين من وهمه بعد".
بمعنى آخر، يشير غليون، بشكل لا لبس فيه، إلى أن الثورة السورية برمتها سارت في نسق انتظار العون والمدد الخارجي، استناداً إلى قناعة الشعب السوري، وربما شعوب العالم أجمع، بإنسانية المجتمع الدولي ومبدئيته، وهو أمر يحتاج تدقيقا وتفنيدا كثيرين، فعلى الرغم من اتفاقي مع اعتبار التعويل على تدخل دولي هو من أوائل الأخطاء في الثورة السورية، إلا أن الاكتفاء بالإشارة إلى الخطأ، واعتباره نتيجة منطقية للاعتقاد السائد بين مجمل السوريين والناشطين، من دون أن يشمل النقد والتحليل الإشارة إلى من يتحمّل مسؤولية هذا الخطأ، يمثل استمرارا للنهج التجريبي والعبثي في التعامل مع الثورة السورية، وعرضا جزئيا للحقيقة، مع طمس أبعادها الكاملة، فعلى أي محاولةٍ نقديةٍ جدية إيضاح الخلل وأسبابه ودوافعه ومسببيه، بشكل واضح وحاسم، كما عليه تفنيد تبعات الخطأ، المحلية منها والدولية.
لذلك، ولإعطاء صورة شبه شاملة وعلمية عن هذا الخطأ، لا بد من العودة إلى بدايات الثورية السورية التي حملت شعارات عفوية ومناهضة للاستعانة بالخارج، من قبيل "لا أميركا ولا
وبناءً عليه، هل يصح رد حالة التعويل على التدخل الخارجي إلى الاعتقاد الشعبي السائد، أم لا بد من تحميل القوى السياسية والمنابر الإعلامية الخاضعة لها مسؤولية التأثير السلبي على الوعي الشعبي السائد، ومن ثم مسؤولية الانجرار وراء أوهام التدخل الخارجي، إلا إن كان المقصود أن غالبية الأجسام السياسية التقليدية، وتلك المنبثقة ما بعد الثورة السورية، كانت وما زالت تمارس المعارضة بطريقةٍ غير منهجية، بدلاً من انخراطها في العمل السياسي الحقيقي والثوري!
نحو التأثير على روسيا
يعرض الدكتور برهان غليون الموضوع باعتباره تحولا في سياسة المعارضة السورية، وكأنه تحول جذري واستراتيجي، على خلفية اكتشاف المعارضة عبثية سياسة التعويل على المجتمع الدولي ووهميتها، لكنه في الواقع تحوّل نحو الخطيئة السياسية الثانية، كما يؤكد غليون أيضا، والتي تتمثل في الانتقال من انتظار وقف آلة القتل الأسدية (والمليشيات والقوى المتحالفة معها)، وانتظار دعم مسيرة السوريين نحو الحرية والديمقراطية، عبر موقف دولي حازم وحاسم وواضح، إلى محاولة العمل السياسي السوري على ثني الروس عن دعم آلة الإجرام الأسدية، ودفع الأسد إلى القبول بالانتقال السياسي، حيث ما لبث أن أصبح الموقف الروسي ذريعةً لأصدقاء الشعب السوري، لتبرير تقاعسهم عن ممارسة الضغوط الحقيقية على نظام الأسد، والتي نجدها في مقال غليون كما يلي "حتى تقلصت خطة العمل السياسي الثوري بمجموعه تقريبا إلى البحث في وسائل ثني روسيا عن موقفها المعارض لاتخاذ أي قرارٍ يفرض على النظام التحرّك في اتجاه الانتقال السياسي، أو يمكّن، أقل من ذلك، من تشكيل ضغط قوي على النظام السوري".
ومرة أخرى، أتفق مع المقال بالإشارة إلى الخطأ المشار له، مع اختلافي معه بشأن تهميش
القضية السورية إنسانية فقط
جاء مقال برهان غليون عن تحول القضية السورية من سياسية إلى إنسانية "لم يعد لعرض مشاهد العنف المروّعة وتوثيقها أي أثر إيجابي على سياسات الدول والحكومات. بل تحولت القضية بسرعةٍ من قضية سياسية إلى قضية إنسانية، وتركّز الحديث فيها في مسائل الإغاثة ومساعدة اللاجئين واستقبالهم هنا وهناك، وترك الفاعل الرئيسي وموقد الفتنة والنار حرا طليقا، وصرف النظر عن تسليحه، وتعزيز قدراته من حلفائه. ومع مرور الوقت، لم يعد القتل الجماعي والتنكيل بالناس وتشريد الملايين وقتل الأطفال يثير أي رد فعل، أو حتى اعتراضٍ، من المجتمع الدولي". والتي يبدو أن المقال يعزوها إلى خطيئة الاعتقاد الشعبي الطبيعي (لا يعتبرها المقال خطيئة القوى السياسية)، في انتظار المدد الخارجي. تشكل هذه الخطيئة الرئيسية التي قامت على أنقاضها أخطاء جوهرية عديدة، لتشكل جملة من هذه الأخطاء الجوهرية الأسباب الرئيسية في تحول القضية السورية إلى قضية إنسانية، ومنها طمس الحركة الثورية المدنية، وتدميرها لصالح تعظيم الصراع العسكري، والذي غالباً ما تم إلباسه لبوسا طائفيا مقيتا (من دون إنكار دور المجموعات الطائفية في الصراع، غير أن تحويل الصراع إلى صراع سني ونقيضه، أو صراع إسلامي مع نقيضه هو خيانة للثورة الشعبية التي انطلقت من أهدافٍ سياسية واقتصادية شاملة، من دون وجود لأي أبعاد طائفية أو دينية)، فضلا عن اقتصار نشاطات المعارضة المنظمة وممارساتها على تصوير مشاهد القتل والدمار اليومية وعرضها، بهدف تهييج مشاعر الشعوب العالمية، ودفعها إلى الضغط على حكوماتها من أجل التدخل المباشر في سورية، والتي تعكس أوهام المعارضة في دور الإعلام وحجمه في رسم السياسات الدولية، لنصبح اليوم (منذ مدة) أمام صورة نمطية إعلاميا، تتلخص في وجود مدنيين مختلفي الانتماءات العرقية والإثنية، هم ضحايا مباشرون للصراع العسكري الحاصل، والذي تم ترويجه صراعا دينيا أو طائفيا. وإن كانت البداية انطلاقا من رغبة أطراف في المعارضة في إظهار طائفية النظام، وطائفية حلفائه الإقليميين، إلا أن التكرار الدائم لهذه الأسطوانة الطائفية، وترافقها مع إشادتهم الإعلامية والسياسية بجميع القوى الجهادية الأصولية، ذات الطابع السني، واعتبارها جزءا عضويا من المعارضة السورية، والتي ترافقت كذلك مع تهميشٍ كاملٍ لأي حركة ثورية شعبية، ذات طابع وطني، قد شكلت جميعها الأرضية المنطقية لغياب القضية السياسية السورية، أي تغييبها كثورة إعلاميا "ودوليا"، وحصرها بصراع مجموعاتٍ مسلحةٍ غوغائيةٍ وإجرامية، بغض النظر عن مدى إجرامية كل منها، ليضحى الشعب السوري، وبكل أطيافه، الضحية الوحيدة لهذا الصراع البغيض، وتتحول الثورة السورية إلى قضية لاجئين ونازحين وضحايا للإرهاب المنظم والغوغائي فقط، أي تحوّلت القضية السورية إلى قضية إنسانية فقط، لبشر يطحنهم صراع عبثي طائفي.
العودة إلى الواقعية السياسية
ينتهي مقال الدكتور برهان غليون إلى اعتبار الثورة السورية ضحية عودة المجتمع الدولي إلى مذهب الواقعية السياسية، بقوله "عودة ما يسمى مذهب الواقعية السياسية، أي البحث عن تعظيم المصالح لكل دولة، مهما كان الثمن، وخارج أي اعتبار أخلاقي أو سياسي، وبصرف النظر
الحوار الداخلي
في النهاية، يأمل غليون في أن تدفع الظروف الدولية المذكورة السوريين إلى استنهاض قواهم المادية، "علينا أن نعود إلى تلمس إمكانية تفعيل نوابض القوة المادية والمعنوية في مجتمعاتنا، والعمل على تعزيز فرص الحلول الداخلية، وربما البدء بتكوين لجنة اتصالٍ وطنية، مهمتها القيام بالمشاورات الأولية لاستكشاف إمكانية فتح حوار وطني منتج، على مستوى المجتمع المدني، يمهد في المستقبل لبناء تفاهمات والإعداد لعهد وطني جديد، يختم حقبة الحرب، ويؤسس لحقبة ما بعد الأسد وإنهاء التدخلات والاحتلالات الأجنبية جميعا". ولا يرشدنا المقال إلى المنطلقات الرئيسية لاستنهاض قوتنا المادية الداخلية، المنطلقات التي أهملتها المعارضة السياسية (الإخوان والمجلس الوطني والائتلاف) حتى اليوم، والمتمثلة في استنهاض المجتمع السوري، انطلاقا من مصالحه الوطنية والقومية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي يعني إعادة الاعتبار لأهداف الثورة السورية كاملة، ونبذ الخطاب الطائفي الضيق، ونبذ خطاب تقزيم الثورة، بحصرها في مطلب الحرية والديمقراطية، مع الإهمال المقصود لأهداف السوريين، الاقتصادية والاجتماعية والتنموية.
واجهت الثورة السورية، ومنذ يومها الأول، تحالفا عالميا داعما لإجرام الأسد، بعضه علني وبعضه مستتر خلف فزاعة العجز عن التدخل. كما طعنت الثورة السورية في ظهرها من القوى السياسية السورية التي تعلقت بأوهام وأحلام كاذبة، وانتهجت سياساتٍ لاوطنية، وبعضها طائفية ورجعية، كالتعويل على الخارج، واعتبار المجموعات الجهادية والأصولية مكوّنا رئيسيا من مكوّنات الثورة السورية، هذه السياسات التي تتناقض مع منطلقات الثورة السورية ذاتها، والتي بنيت على أوهام ومصالح فئوية ضيقة، ومصالح الداعمين الإقليميين والدوليين. وهو ما يحتاج لتفنيده بوضوح وعلمية دقيقة جدا من أجل العمل على بناء الجسد السياسي الثوري الذي يعبر عن الثورة، وعن الشعب السوري بكل أطيافة ومكوناته، كما يعبر عن طبيعة النظام المنشود، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.