أخضر البلاد

28 يوليو 2015
فادي يازجي / سورية
+ الخط -

سيّارةٌ بيضاء بسقفٍ أسود تدعى "أوبّل أسكونا"، في المقعد الخلفي تجلسُ أختي وراء أمي، وأجلسُ أنا، ابنة السابعة، وراء أبي. يومٌ معتدلُ الطقس من أيام عطلة منتصف العام الدراسي 91-92 على طريق حلب - كسب.

بدايةٌ رتيبةٌ معتادة، عشر دقائق من الاستماع الإجباري لنشرة أخبار مونتي كارلو، يُنهيها أبي بأخبار فلسطين. يومَها كانت فلسطين تتصدر النشرات والأخبار والقضايا والاهتمامات والعقول وكل شيء. تُسارع أمي إلى علبة شرائط التسجيل. اختياراتها متوقّعة وتتراوح بين فيروز، شادية، فايزة أحمد، عبد الوهاب وأسماء قليلة أخرى.

تُقرّرُ إرضاءَ الجميع وتنتقي كاسيت لعبد الحليم تُلقمُه سريعاً لآلة التسجيل. عرفتُهُ، هذا الشريط ملائمٌ للسفر والمشاوير الطويلة نسبيّاً. حفلة نادي الترسانة في مصر عام ١٩٧٦. وفيها يغنّي عبد الحليم أغنية "أبو عيون جريئة" مُخَصِّصَاً ما يقارب ثلث الأغنية للمقطع الشهير: "طال شوقي وطال تعذيبي". يُعيد، يكرّر، يعلو ويهبط بطبقات الصوت على طريقته المعروفة، يتفنّن، يُقَصِّرُ الجملة أو يطيلها. نلاحظُ في الخلفية تصفيقَ الجمهور، ونسمعُ له هتافاتٍ وصافراتٍ للثناء والتشجيع.

ينخرطُ ركّاب سيارتنا في المشهد الفني، نصفّق أيضاً، نهزّ الرؤوس ونتمايل، نتبادل نظرات إعجاب صامتة كلّما أبدع "عبدو حليمو" ونتفاجَأ للمرة الألف بتلوينات التسجيل وفَرادته. ينتصفُ الطريق. ويصلُ الحماس والاندماج إلى الدرجة التي تسمح بالتخلي عن المسجلة والتصدي لمهمة إحياء ما تبقى من وقتٍ للوصول اعتماداً على مواهبنا وأصواتنا فقط. تبادرُ أمي إلى افتتاح حفلتنا الخاصّة بمقطع " قلبي لك ميَّال" من أغنية " فين طريقك فين" للأستاذ محمد عبد الوهاب.

صوت أمي جميل، مثل كلّ أصوات الأمهات. وبالتفاتةٍ سريعةٍ إلى الخلف، وبنظرةٍ نعرفها جيداً تدعونا أمي إلى مشاركتها الغناء. تُفلِتُ منها ومنّا بعض النوتات والكلمات. لا يهمّنا. أنا وأختي لا نعرف الأغنيات الأصلية. حفظناها عن أمي كما تقولها وتلفظها وتغنيها وأحببناها هكذا.

وعندما كبرت واستمعتُ إلى معظم هذه الأغنيات من أصحابها الأصليين بقيتُ متحيّزة إلى نسخة أمي بتعديلاتها وهفواتها وأخطائها. يتولّى أبي ضبط الإيقاع بالطَرْقِ على المِقوَد أو بإصدار أصواتٍ من نوع: "تيرا رارا تيرلم". وأحياناً يتدخّلُ بتحوير بعض الكلمات واستبدالها بأخرى مُضحكة تثيرُ ابتساماتنا وتصونُ جوَّ المرح المرافِق لمشوارنا.

قَبْلَ الوصول بقليل وتحديداً عند منطقة الفرلّق تتعطّل السيارة وتتوقف تماماً. لا شيء يستدعي غياب الابتسامات. ولا شيء يسمحُ بتسرّب الضيق أو الخوف إلى مزاجنا. فأبي، القائد العام للبيت ونشاطاته، دائم الجهوزية للتعديلات وسريعُ القرار. يطلبُ منّا النزول إلى الغابة المحاذية للطريق ريثما يؤمن لنا وسيلة توصِلنا إلى وجهتنا ثم يتفرّغُ لتدبُّر أمر السيارة. حتى هذا العطل الطارئ كنّا قادرين على تطويعه ليُجَمّلَ ويُكمِّلَ فقرات رحلتنا.

أكثر من ساعة قضيناها أنا وأمي وأختي نلعبُ في الغابة، نركضُ، ندور حول الأشجار، نلتقط الصور، نتسلّقُ الصخور الصغيرة ونصرخُ بأسمائنا وضحكاتنا وبكلّ ما يخطر في بالنا. وأعتقد أن الصورة التي تجمعني وأختي أمام شجرة سرو كبيرة ونحن نرتدي كنزتين متشابهتين هي من أحبُّ الصور العائلية إلى قلبي وذكريات طفولتي.

انتهت القصة. لا، لن أصلَ بكم إلى كسب. فكلُّ ما أردتُ قولَهُ قلتُهُ على الطريق. وكلُّ ما اشتقتُ إليه ذكرتُهُ وشرحتُهُ. عدُّوا معي: أبي، أمي، أختي، طفولتي، أصواتنا، دربُ الرحلة، الأغنيات القديمة، عبد الوهاب وعبد الحليم، السلام وراحة البال، السّفر الترفيهي بين منطقتين في بلدي، أخبار فلسطين في مقدمة النشرة، الغابة، الثقة بكلّ شيء واليقينُ من الوصول.

أمّا العنصر الذي يتصدّر قائمة أشواقي ويختصرها في هذه اللحظة تجدونه في الصورة التي حدثتكم عنها. وتحديداً في لون الشجرة التي تشكّلُ خلفية الصورة: الأخضر. أنا مشتاقةٌ للأخضر؛ الأخضر في القلوب، الأخضر في العقول، الأخضر على الموائد وفي البيوت، الأخضر في الفنّ والأغنيات والأذواق، الأخضر في النوايا وفي الكلام. أخضر أيامنا وأعمارنا، أخضر بلادنا التي.... بلادنا التي يجلّلها أسودٌ قاتم لا يليق لا بها ولا بِنَا.

* كاتبة قصة من سورية

المساهمون