كثيراً ما يتردّد في تونس الحديث عن إصلاحات النظام التعليمي. حديث يتواتر من دون أن يلمس التونسيون تغييرات جذرية، بل قد تلغي بعضها بعضاً ضمن تجاذبات السياسة، وكثيراً ما كان "الإصلاح انتهازياً أو تكتيكياً"، كما يشير إلى ذلك الكاتب والخبير التربوي، أحمد بوعزي، في كتابه "أفكار ضد التيار"، الذي جرى تقديمه يوم الجمعة الماضي في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في تونس.
قدّم الكتاب أستاذ الفلسفة السياسية في الجامعة التونسية، منير الكشو، والذي انطلق من دور المنظومة التعليمية في تمكين المواطن من الاستقلالية وجعله مشاركاً في التنمية وفي صنع القرار العام، لقراءة تشخيص المؤلّف للوضع التعليمي.
يقول الكشو: "أشار العمل إلى أن تونس، وبعد تحقيق الاستقلال السياسي في 1956، أخذت خطوات في تونسة السياسة الخارجية والإعلام والجيش وتأميم الأراضي الفلاحية، ولكن جرى تأجيل الاستقلال الثقافي".
وهنا يسأل الكشو: "هل ذلك قراءة خاصة أم معلومة تاريخية؟"، ليبيّن المؤلّف، في وقت لاحق، بأنه استنتاج نابع من مقارنة بين تحوّلات السياسات التربوية والتاريخ السياسي المعاصر؛ حيث يرى بأنه كان ثمّة تخوّف من قبل بورقيبة في بداية حكمه من الزيتونيين أن يتقوّوا بتعريب التعليم فيضرّوا بمعادلات السلطة، وهذا التهميش للعربية كان يتماشى مع السياسات الفرنسية، فـ"استعمار العقول أقل كلفة وأكثر تأثيراً من الاستعمار المباشر، واللغة تمكّن من تعويض الاستعمار العسكري بالاستعمار الناعم"، كما جاء في الكتاب.
من هنا، ينفذ بوعزي إلى القضية الأكثر جدلاً في التعليم التونسي، ليعود إلى متابعة التجاذبات التي رافقتها. كتب "استطاعت فرنسا تكوين لوبي فرانكفوني في تونس لمحاربة كل محاولة للتعريب". ومن خلال تأريخه لمسار التعريب المتذبذب في تونس، يبيّن كيف جرى الالتفاف على استكمال شروط نظام تعليمي ناجع.
يعتبر بوعزي أن تدريس العلوم بغير لغة البلاد لا يلبّي شرط الاستقلالية، وهذا الوضع أحدث قطيعة بين لغة التدريس (حامل المعرفة) ولغة البلد. ورغم أنه جرى التقدّم بمطلب التعريب خطوات، خصوصاً مع الوزير محمد الشرفي (1989 - 1994)، فإن الإصلاحات المهمّة التي حصلت "اتُّخذت للحصول على قروض البنك الدولي أو الاتحاد الأوروبي أو من أجل ضمان السلم الاجتماعي".
هنا، يشير الكشو إلى "صعوبة إصلاح التعليم في ظل نظام ديكتاتوري"، مقدّماً زاوية نظر مختلفة للأمر. إذ يرى أن "ازدواجية اللغة وعدم التمكّن من إتقان لا هذه ولا تلك ساهم في انحسار العقلانية وإفقار الثقافة العامة للمجتمع"، وهو يرصد خللاً "في الربط بين ثقافة الخبير وثقافة المواطن العادي بسبب هذه الازدواجية اللغوية، فالثقافة العامة عربية والثقافة العالمة فرنسية"، وهذا بحسبه "يفسّر عدم وجود شعبية للنظام التعليمي التونسي، كما يفسّر ظواهر أخرى، منها غلبة التديُّن السطحي، وصولاً إلى تفشّي الأصولية، وهو أكبر تجلّيات الفشل التربوي".
يتناول الكتاب أيضاً قضايا أخرى ويقدّم مقترحات حلول، حيث يتطرّق بوعزي إلى ضرورة "عقلنة الزمن المدرسي"، وإلى السن التي يفضَّل فيها دخول الأطفال إلى المدارس، وصولاً إلى قضايا التعليم العالي (وهو أستاذ فيزياء في الجامعة)؛ حيث يكشف موطن الضعف في البحث العلمي أو يبيّن عشوائية نظام المنح للدراسة في الخارج، وفي كل ذلك يلفت إلى غياب اختصاص علوم التربية.
يرى بوعزي ضرورة لفت انتباه السياسيين والنخب في تونس لمسألة التعليم، وهو يفسّر العنوان الذي اختاره لكتابه، بكونه يقدّم "أفكاراً ضد التوجّه العام للمسؤولين والنقابات"، إذ يبدو أن التجاذبات كثيراً ما تُنسي الأطراف المتصارعة أنها ضمن المركب نفسه، فلا يتفطّن أحد إلى أنه لا يتقدّم.. أو أنه يغرق.