أبت أن يرحل من دونها

16 سبتمبر 2015
البحر رحيم حنّان... (موقع مهناز يزداني)
+ الخط -

تتمسّك رينا بمعطف والدها المشمّع الواقي من المياه. تبكي ويعلو شهيقها. تأبى أن يرحل من دونها. مرّ زمن مذ اصطحبها للمرّة الأخيرة، في مركبه. هي تحبّ ذلك المركب الذي كلّما تطلّعت صوبه، تلمع عيناها. عليه، كُتبت باللون البنفسجيّ أحرف اسمها. ابنة السنوات الأربع، لم تكن تعرف من الأبجديّة إلا تلك الأشكال الأربعة التي أخبرها والدها بأنها الأحبّ إلى قلبه.

الساعة تشير إلى الثالثة فجراً. يحاول الوالد الخروج من المنزل من دون أن يشعر به الأولاد، خصوصاً رينا. لا تنجح خطّته. يحاول إقناعها بأنه سوف يعود فور إنجازه مهمّته. لا تصدّقه. تشعر بخطب ما، تعجز سنواتها الأربع عن ترجمته. وتمضي باكية.

من البعيد، تحاول الوالدة وهي تمسح دموعها، إقناعها بأنها سوف تسمح لها بمساعدتها في خبز العجين، بيد أن ذلك لا يُغري الفتاة. وتصرّ على مرافقة والدها الذي كان يلقي نظرات قلقة إلى ساعة يده. تأخّر الوقت. وكمن خانه عزمه، يسمع نفسه وهو يقول وسط ذهول زوجته: "أحضري معطفكِ المشمّع وحذاءكِ وأسرعي". هي ثوانٍ، وتحضر الصغيرة جاهزة وبين ذراعَيها فأرها المحشوّ. هو رفيق رحلاتها. وكمن يحاول الهرب من نظرات زوجته، يودّع الرجل صبيانه الخمسة ويحمل ابنته ويخرج.

بالقرب من المرسى، ينتظر العشرات أبو رينا. يضع صغيرته في المركب، قبل أن يساعد أحد الرجال في حمل ست فتيات وسبعة صبيان. الأطفال أولاً. تتعجّب. والدها لم يكن يسمح للغرباء بالركوب. لا تسأل. وتبقى بالقرب من الدفّة في انتظار "الكابتن". هكذا كانت وإخوتها يطلقون على والدهم. ويتكدّس الناس، أكثرهم من الشبّان والرجال، في مركبها. لا تفهم. هي نعسة بعض الشيء، ولن تسأل.

يطلب أبو رينا من بعض الشبّان دفع المركب. وينطلقون. أما هي، فتشدّ فأرها إلى صدرها. تلك الوجوه الجديدة تثير شعوراً غريباً لديها. تسمع هديراً غير ذلك الذي يصدره المحرّك. والدها ملهيّ بالدفّة، ولا يبقى لها سوى فأرها. تهمس بضع كلمات في أذنه وتشدّه أكثر إلى صدرها وتغمض عينَيها، كأنها تتهيأ لتلك الموجة العملاقة التي تضرب المركب فتقلبه، قبل أن تأتي ثانية ومن ثمّ ثالثة وتبعثر الأجساد التي لفظت روحها على حين غرّة.

فجر ذلك اليوم، في عرض البحر الأبيض المتوسّط، لم يلتقط أحدٌ صور رينا التي كانت تطفو ساكنة فيما تطوّق ذراعاها الصغيرتان الفأر الرماديّ. كان عناصر خفر السواحل يلتقطون الأجساد الهامدة بالشباك، قبل أن يغلّفوها بأكياس سود سميكة. فجر ذلك اليوم، لم يسأل أحد إن كان أبو رينا مهرّب بشر وإن كان قد ساهم في مقتل طفلته. البحر رحيم حنّان، حرص على خصوصيتهما.

اقرأ أيضاً: كنا صغاراً
المساهمون