آيا صوفيا: أصداء مرارة بيزنطية عثمانية

02 يونيو 2016
(مسيرة تطالب بتحويل "آيا صوفيا" إلى مسجد، نوفمبر 2006)
+ الخط -

مرارة تاريخية وصراع عاطفي مدفون، لا يزال يشعر بهما كثير ممن ينظرون إلى "آيا صوفيا"، ذلك المتحف العريق المطلّ على "البوسفور"، الذي يجمع بين أروع ما أبدعته العمارة البيزنطية والزخرفة العثمانية.

مرارة قديمة بدأت في حلوق البيزنطيين الذين هزمهم محمد الفاتح منتصف القرن الخامس عشر، ثم حوّل كاتدرائيتهم التاريخية، والتي كان يتوّج فيها الأباطرة، إلى جامع يصلّي فيه العثمانيون الفاتحون. تحوّلت المرارة إلى حلوق العثمانيين وأنصار فكرة الخلافة في ثلاثينيات القرن الماضي حين أغلقه أتاتورك وحوّله إلى متحفٍ.

مجرد الحديث عن إعادة افتتاح "آيا صوفيا" للصلاة كما كانت قبل العهد الأتاتوركي يثير شجون الكثيرين في هذا العهد الأردوغاني المتحمّس، وقد سبق لرئيس الوزراء الراحل نجم الدين أربكان أن ألمح إلى هذا الإجراء إذا تمكّن من الفوز في الانتخابات سنة 1989، فأحيا الفكرة في النفوس مرة أخرى.

هذا الأمر يثير قلقاً كبيراً في الداخل العلماني، بل إنه يتجاوز الحدود التركية، فالاتحاد الأوروبي يترقّب توجّهات تركيا الأردوغانية وموقفها من العلمانية، واليونان لا تُخفي امتعاضها من مجرد التفكير في هذا الأمر، وتتزعّم تثوير الأمر على الصعيد الأوروبي، وتهديد المصالح التركية الأوروبية المشتركة.

الحكومة اليونانية صرّحت في أكثر من مناسبة، على مستوى رفيع، بأن الأمر سيمسّ بعلاقات البلدين ويلحق ضرراً كبيراً بالتعايش بين الأديان. واليونان ذات الغالبية الأرثوذكسية والمتداخلة مع تركيا في الهيمنة على قبرص ترى في إعادة تحويل المتحف إلى مسجد انتهاكاً لمشاعر مواطنيها، حيث لا يعتبر اليونانيون أنها مسألة تتعلّق بالسيادة التركية على أراضيها.

وفيما لا يزال الحس الديني التركي بأبعاده الصوفية متحمساً لعودة "آيا صوفيا" لحالته العثمانية؛ لبّى آلاف الأتراك، يوم 28 مايو/ أيار) للعام الثاني على التوالي دعوة رئيس جمعية شباب الأناضول (AGB)، صالح تورهان، لتأدية ما أطلق عليه (صلاة الفتح) بمناسبة مرور الذكرى الـ 563 على فتح القسطنطينية (الاسم القديم لإسطنبول)، حيث تجمّعوا من عدة محافظات لتأدية الصلاة أمام المتحف، مردّدين بعض الهتافات الحماسية ورافعين شعارات مثل: "لنحطّم القيود كي تعود آيا صوفيا"، "لنقم معاً صلاة الصبح في آيا صوفيا"، "احمل سجادة صلاتك وهلمّ معنا إلى آيا صوفيا".

وقد بدأت الفعاليات في ساحة المتحف بقراءة القرآن أعقبتها مجموعة من الأناشيد الحماسية وتوافد الجموع حتى حلّت الساعة الرابعة فجراً وأقيمت الصلاة.

ومن فوق المنصّة التي أقيمت خصيصاً لهذا الحدث، قال المدير الفرعي للجمعية في إسطنبول علي أوغور بولوط: "إن الناس ستسمع عمّا قريب جداً الآذان يعلو ثانية من منابر "آيا صوفيا"، وستجمعنا "آيا صوفيا" للصلاة فيها، وإن المجتمع التركي بكافة طوائفه سيسعد بهذا الحدث العظيم قريباً".

على صعيد برلماني، أعرب النائب المستقل حامي يلديرم عن تضامنه مع الفعاليات، وأعدّ مذكرة للبرلمان لسنّ قانون لـ"فتح آيا صوفيا للعبادة"، معتبراً أن التاريخ يذكُر "آيا صوفيا" مسجداً وليس متحفاً، وأنه جزء لا يتجزأ من تاريخ المسلمين الأتراك وهويتهم، وعنصراً رئيسياً من عناصر تكوين الأمة التركية، متسائلاً عن السبب في أن يظل "الجامع" مغلقاً حتى الآن أمام المصلين؟! معتبراً أن قرار إغلاقه الذي صدر سنة 1934 كان بحجة كاذبة هي "الترميم"، وهو ما لم يحدث!

وأوضح يلديرم أن "آيا صوفيا" وما حولها من مدارس ومكاتب تحفيظ القرآن كانت وقفاً ملكياً للسلطان محمد الفاتح، وأنها اغتصبت، وصارت إلى غير ما وقفت له.

على صعيد المعارضين لهذا التوجّه داخل تركيا؛ يرى الكاتب الصحافي محمد شليك أن آيا صوفيا لا تمثّل جامعاً فقط، بل كانت في الماضي كنيسة للمسيحيين، ثم مسجداً للمسلمين، وأنها ينبغي أن تظل قبلة لمحبي السلام والتسامح في العالم.

فيما أكد الباحث في الشؤون التركية أحمد الشرقاوي صعوبة استجابة الحكومة التركية الحالية لتلك التوجّهات في هذه الفترة السياسية الملتبسة والتي تتشابك فيها مصالح تركيا مع عدد من الدول الغربية التي يمكن ألا تتفهّم وجهة النظر الشعبية التركية وأبعادها العاطفية. كما أنه من السهل تأويل هذا الإجراء بما يضر التحالف الدولي في "الحرب على الإرهاب".

وكانت "جمعية شباب الأناضول" قد جمعت العام الماضي 14 مليون توقيع للمطالبة بتحويل المتحف إلى مسجد، بعد دعاية مكثّفة في كافة المحافظات التركية، بررت فيها موقفها بأن الإبقاء على وضع "آيا صوفيا" قيد القرار الأتاتوركي يمثّل إهانة لملايين المسلمين الأتراك.

يذكر أن كاتدرائية آيا صوفيا بنيت على أنقاض كنيسة أعرق وأكثر قدماً أقامها الإمبراطور قسطنطين العظيم، وقد ظلّت كاتدرائية لمدة 916 عاماً، ثم مسجداً عثمانياً لمدة 481 سنةً، ومنذ عام 1935 أصبحت واحداً من أهم التحف المعمارية في تاريخ المنطقة.
___________

وظائف سياسية
هذه ليست المرة الأولى التي يتظاهر فيها مصلّون مسلمون أمام متحف آيا صوفيا مطالبين بفتحه مجدداً كمسجد بعد أن كان كاتدرائية. بدأت هذه المطالبات عام 2013، مع تصريح لأحد السياسيين آنذاك استعداداً لانتخابات البلدية في 2014، لكنها أصبحت على أشدّها في أيار/مايو من العام الماضي، وفُسّرت كردّ فعل على تصريحات البابا حول مسؤولية تركيا عن مذبحة الأرمن؛ ما يجعل آيا صوفيا حجراً يتم تحريكه وفقاً لتوظيفات سياسية.

المساهمون