"لما زاد الظلم والحصار قال رجال ونساء من مختلف الأعمار: نهرب، لعل عند الغريب نجد الملجأ والأمان، لكن كان ما كان. وهاكم الحكاية من البداية..."
كان هذا جزءاً من مقدمة بدأ بها المخرج أسعد طه حلقة "سفينة الموت"، من البرنامج الوثائقي على شاشة الجزيرة الوثائقية "يحكى أن"، والتي كانت تحكي عن "قوارب الموت وهجرة العراقيين" التي اضطر الآلاف منهم بعد حروب خاضها العراق مع دول جواره، (حرب الخليج الأولى والثانية) وما جرى بعدها من فرض حصار اقتصادي عليه.
هو مخرج ومنتج للأفلام الوثائقية، بدأ مسيرته الابداعيّة من الصحافة المكتوبة إلى التلفزيون، حيث عمل مذيعاً ومراسِلاً. إلا أن بوصلة السفينة أبت إلّا أن تَقود شراع الحقِّ والإنسانية الى موانئ الإبداع في عوالم الإنتاج الوثائقي؛ ليجلب الى الشّرق رؤية جديدة فيها من دوافع التغيير والسّمو ما أَسر المشاهدين.
وبالرغم من كل الصعوبات التي تولد مع الطموحات في الشّرق على وجه الخصوص، برز الإعلامي، أسعد طه، في مجال مُغاير. "أنا مع الدراسات الأكاديمية والعملية والدورات التدريبية لتكوين الشخص الذي يمارس هذه المهنة. لكن عليَّ أن أعترف أنني لم أفعل ذلك، إلا أني أريد أن أؤكد أهمية هذا الأمر حتى لا يظن البعض أنني ضده عندما أقول، إنني لم أدرس الإعلام لا من قريب ولا من بعيد. غير أني ومنذ الصغر كنت أعشق الحرف والكلمة، وكان الكتاب هو أكبر متعة لي، ومارست الكتابة في كل سنوات عمري منذ الابتدائية إلى الجامعة".
وعن أهمية ممارسة تجربة واحتكاك حقيقيين مع الحياة "إن الإنسان لا يتكون مهنيّاً هكذا بعيداً عن الحياة، بل إن أحداثها لها دور أساسي بشرط أن يتفاعل معها، ولا يدعها تمر دون أن يستفيد منها، لقد مررت بنكسة سبعة وستين وقصف مدينتي السويس ثم الهجرة ثم الأنشطة المدرسية، وبعدها تجربة غنية جداً في منظمة الشباب بمناهجها المكثفة، ثم الجامعة بأفراحها وخيباتها، الحفلات والمظاهرات ومجلات الحائط، وتجارب شخصية أخرى عديدة كلها ساعدت في تكويني، مرة أخرى أكرر، المهم كيف تتفاعل مع ما يمر بك، كيف يمكن أن تستفيد به، وكيف تكون لك خصوصية في خوض هذه التجربة، بمعنى لا تقلد أحداً، أدرس الآخرين وتجاربهم وكيف استفادوا وعاشوا حياتهم لكن كن أنت، وحين تقرر أن تبدأ، لا تبدأ من نقطة يكثر فيها المتنافسون ولن تضيف أنت شيئاً جديداً إلى العالم أو إلى مهنتك، أبدأ من نقطة صعبة يفر منها الآخرون وتضيف أنت فيها شيئاً جديداً مهما كان تافهاً أو صغيراً، شخصيّاً اخترت أوروبا في الوقت الذي لم يكن العالم فيه منفتحاً كما هو الآن، ثم سريعا تركت أوروبا الغربية إلى شطرها الشرقي وقد بدأت الشيوعية تنهار، ثم إلى بلاد الإمبراطورية السوفييتية، وتجولت في البلقان، ثم اخترت أن أغطي حروب يوغسلافيا، وبعدها انطلقت إلى العالم كله".
وعما هو الملهم في مسيرته؟ وهل هناك وجهة على الباحثين عن التميّز ارتيادها؟ "أهم ما يجب أن يمتلكه المخرج أو صانع الأفلام بالنسبة لي هو الرؤية، فإن فقد الرؤية فقدَ أهم سماته كمخرج، رؤية نحو الحياة ونحو قضاياها وأمورها وتصاريفها، والرؤية تحتاج إلى خبرة ودراية في الحياة، والعمل في الأخبار متنقلاً بين دولة وأخرى، أي الأخبار والسفر ساهما إلى حد كبير في تكوين شخصيتي، لاحقاً، كصانع ومنتج للأفلام الوثائقية، مرة أخرى لم أدرس الإخراج، وربما لست عظيماً في الجانب التقني، لكن امتلاكي لرؤية، وهي ليست حق مطلق بالتأكيد، ولكن نظرة إلى الحياة، امتلاكي لهذه الرؤية هو الذي ساعدني كثيراً".
وعن البداية والتنقل بين الحقول والمجالات "اشتغلت بالصحافة المكتوبة، ثم الإذاعية، ثم المرئية، وفي لحظة ما شعرت أن لدي ما أقوله، فبدأت في إنتاج وإخراج "نقطة ساخنة" الذي هو بمثابة برنامج وثائقي، ولاحقاً "يحكى أن" التي أصنفها كفيلم وثائقي رغم اعتراض البعض كون أني أتحدث للكاميرا أحياناً".
وفيما يتعلق بدور الإعلامي العربي في ظل واقع مجتمعاتنا العربية اليوم "كنت وأنا صغيراً أقرأ عن "الفتنة" وأستغرب، كيف تكون فتنة، والحق واضح والباطل واضح، لكن للأسف عشت حتى عاصرتها بكل ما تحمل من معان، حيث يختلط الحق بالباطل، والباطل بالحق، فتنة تمر بها المنطقة العربية كلها، ولا أظن أني أكون مبالغاً حين أقول، إن العالم كله يهتز، بخصوصنا، فقد أصبح للدين معاني ومفاهيم عدة، وكذلك للوطن، واختلطت الأمور كلها ببعضها، ولذلك نعيش ظواهر الإلحاد والانتحار وغيرهما، والإعلامي هو جزء من المجتمع الذي أصابه ما أصاب ويجري عليه ما يجري على كل فئات المجتمع، غير أن دوره يختلف". ولتقريب رؤيته لدور الإعلامي العربي وعلاقته بمجتمعه "الطبيب أحد مكونات المجتمع مثله مثل الآخرين، وعندما يصاب المجتمع بأوبئة يصبح هو أهم عنصر في المجتمع لأن هذا دوره، نفس الحال بخصوص المفكرين والمثقفين والإعلاميين، فدورهم الآن هو إرشاد المجتمع وإنقاذه للخروج من أزماته، والمشكلة كما ذكرت هو أن الإعلامي هو في الأصل مصاب بما أصيب به المجتمع، ومن ثم تكون مهمته أشق". كما يتسرسل في سرده حول هذ المحور "دائماً أسأل نفسي ما هو الدور الذي يتعين علي أن أنجزه في هذا الزمن
الذي نعيشه بالذات، لا أستطيع أن أدعي أن لدي إجابة كاملة، لكن أظن أنه يتحتم علي ألا أكذب على الناس، أو أشارك في كذبة، أو في خداعهم على أن أنقل لهم ما أراه، ربما أخطئ لكن المهم ألا أكذب، وربما لا أجد الوسيلة لذلك، فأصمت، أو أحاول عبر ما أملك من وسائل بسيطة مثل المواقع الاجتماعية، المهم أن أتكلم صادقاً أو أصمت".
وعن سؤال التغيير عربيّاً والمراحل المتشابكة التي واجهتها مسيرة التغيير في أوطاننا "أنا أؤمن بأنه ليس هناك مهمة ما يستطيع شخص أن ينجزها فيغير العالم وحده، ولكن أؤمن بنظرية التراكمات، أفعل ما في مقدورك مهما كان بسيطاً، وسيفعل الآخرون الصادقون وسيتحول ذلك مع الزمن والتراكم إلى فعل إيجابي مهم قادر على التغيير. لذلك يجب أن يجد المخلصون من الإعلاميين مؤسسة إعلامية ليست ذات لون واحد، وإنما مؤسسة تعكس آراء ومواقف كل التيارات الوطنية غير الفاسدة، والرهان على عقل المشاهد في أن يختار ما يحلو له".
وعن مآلات المنتج الوثائقي عربيّاً ، فيلماً وبرنامجاً، "مازال الوثائقي العربي في أول الطريق، لكنه، أخيراً، قفز قفزات واسعة، بفعل عوامل متعددة، ربما التقنية التي ساهمت في أن تكون الكاميرا والمونتاج في متناول الجميع، ربما الثورات العربية التي انطلق شبابها في توثيق وقائعها، المهم أنه مقارنة بما مضى فإن الفيلم الوثائقي قد حقق تقدماً لافتاً، لكن مقارنة بالسوق العالمية مازال متأخراً، كما يجب الانتباه إلى أنه في كل الوطن العربي ليس هناك إلا قناة واحدة متخصصة للأفلام الوثائقية وهي قناة الجزيرة، والأهم أننا مازلنا نتوق إلى أن نرى الفيلم الوثائقي معروضاً في دور العرض السينمائي".
وبقوله لشباب الربيع العربي "أندهش من هؤلاء الذين يريدون أن يعيشوا ويموتوا دون أن يتركوا أي أثر في هذه الدنيا، هؤلاء الذين لا يؤمنون بأنفسهم وبقدرتهم على التغيير، وعلى كسب موقع تحت الشمس، عليك أن تحتفظ بطموحك متوهجاً حتى الممات، هذه الفرصة، أقصد الحياة على الأرض، لن تتاح لك مرة أخرى فكيف لا تستغلها".