"نهج البيان" لمحمد المختار السلامي: تَفسيرٌ في سياق الثورة

08 يونيو 2020
من القيروان أيام الثورة التونسية (Getty)
+ الخط -


لعلّ من غرائب تاريخ الثورات السياسيّة أن ينبثق من رحِمها تفسيرٌ للقرآن الكريم. وهذا ما جرى في تونس بعد ثورة 2011؛ فقُبيل سنةٍ من اندلاعها، انبَرى مُفتيها السابق، محمد المختار السلامي (1925 - 2019)، في شرح كتاب الله سورةً سورةً، ثمَّ أخْرَج تفسيره في ستّة أجزاء بعنوان "نَهج البيان في تَفْسير القرآن" (2015).

لأول وهلةٍ، قد تبدو الصلة واهيةً بين مساريْ الثورة والتفسير، إلا أنَّ بعض القرائن تؤيّد ما بينهما من تأثير: كاعتِزال الشَّيْخ للحياة العامة، منذ سنة 1998، حينَ أُقصيَ رسميّاً من منصب الإفتاء الذي شَغَله منذ 1985، فصار من المغضوب عليهم، بسبب مُشاركته في مؤتمر إسلاميٍّ لم يتَصدَّ فيه لمنتقدي سياسة نظام بن علي التي كانت تهدف إلى "تَجفيف المنابع الدينيّة".

والراجح أنَّ زوالَ نظام بن علي هو ما شجَّع السلامي على النهوض بهذا العمَل العلمي. وهذا ما نطالعه في "المقدمة"؛ حيث يقول إنّ "نَهجَ البيان" استغرَق منه ستَّ سنوات. وبما أنَّه فرغ من تحريره آخِر تشرين الأول/أكتوبر 2014، فإن ذلك يعني أنه ابتدَأه نهاية سنة 2009، أي قبلَ الثورة. ولا شكَّ أنَّه شرعَ، مِن سنواتٍ طويلة، في تَحرير بعض شروح الآيات، خصوصاً مع تفرّغه النسبي وتوقّف مهامّه الرسميّة.

مع ذلك، لا نَجد ضمنَ صفحات التفسير، التي تزيد عن الخمسة آلاف، أدنى إشارة إلى "أحداث الثورة" ولا إلى ما شهدته تونس خلالها من التقلّبات، رغم أجواء الحرية النسبيَّة التي سادت وقتَها. وهو ما يدعو إلى محاولة إدراكٍ أعمق لأسباب وضع هذا التفسير. فهل كان مساهمةً منه لتَنوير الرأي العام ومدّ الثورة بمرجعيّة دينية- علمية؟ ولقد كانت في أشدَّ الحاجة إليها بسبب فوضى المفاهيم التي هزّت المجتمع التونسي آنذاكَ، خصوصاً مع العودة القوية لمظاهر التشبّث بالهويّة العربية- الإسلامية، بحثاً عن المنابع الثَّرَّة.

وبغضّ النظر عن سياق إنجاز الكتاب ونشره، جاء "نهجُ البيان" استجابةً لحاجةٍ ماسةٍ عبّر عنها "كثير ممن اتَّسَعت آفاقُ تَفكيرهم من المهندسين والأطبَّاء والصيادلة والحقوقيين"، أيْ من الطبَقَة المثقَّفة الوسطى في تونس، الذين "باتوا يتطلَّعون إلى تفسيرٍ يَصل بينهم وبين القرآن، يَهتَمُّ بمعانيه وهَدْيه الراشد، فلا يعجزهم متابعتُه، ويَندمجون بواسطته في الجوَّ القرآني"، حسب عباراته. ولذلك أكّد الشيخ أنَّه لا يَسعى إلى تكرار ما قيل، بل إلى إضافة أفهامٍ لم يَفْطن إليها آباءُ المفسّرين. حتى ذهَب إلى تخصيص فهرسٍ خاصٍّ للآيات التي لم يُتابِع في فَهمها ما دَرَجَ عليه الأسبقون.

وأمّا المنهج الذي التزمَه طيلةَ الأجزاء الستّة، ولم يَحِد عنه قيد أنملة، فهو ثلاثيّ المراحل: في الخطوة الأولى، يَعتني بشرح الألفاظ التي يتوَقَّع أنَّ التالي يحتاجُ إلى بَيانها، وعليها يتوقَّفُ فهمُ الآية. ثم يشرح، في الخطوة الثانية، بشكلٍ إجماليٍّ، المقطعَ القرآني المدروس الذي يمكن أن يكونَ آيةً واحدةً أو مجموعةً من الآيات، تربط بينها وحدَة الغرض. ويفصِّل أخيراً العناصرَ التي تضمّنها ذلك المقطع ويتوسّع، آية آيةً، في استيحاء المعاني منها.

وتقترب طريقتُه في العمل من التّناص الواعي والاستعادة الجَزلة لمضمون الآيات. فقد كان يعيِّن المقطَعَ المدروس ثم يطالع عَنه ما جاء في كُتب التفسير، حتّى يَضمنَ سَلامة الفهم ويستأنس بما ذَكَرَه السابقون. وبعد ذلك، يشكّل فكرةً عامة عنه، هي التي يَصوغها في لغة واضحةٍ، تَستعيد أهم المعاني الواردة في المقطع. فتفسيره إذن نصٌّ على نصٍ وتحريرٌ لما يتراءى له من دلالات كلّ وَحدة قرآنية.

عربيةُ هذا التفسير معاصِرةٌ، تخفَّفت إلى حد كبير من أساليب التعبير القديمة، ومن تعقيدات المفسّرين واصطلاحاتهم النحويّة والبلاغيّة والأصوليّة. فَجاءت سهلة المآخذ، عصريَّةَ التركيب والمعجم، تنحو إلى أن تكون تأمّلاً في المبادئ الإنسانية العامّة، الثاوية في القرآن، يصوغها في أسلوبٍ حديثٍ، يَفهمه القارئ العادي، الذي لا يَمتلك مفاتيحَ العلوم الكلاسيكية، والتي لم يورد منها، في تفسيره، إلّا القليل النادرَ. وكأننا نلحظُ في هذا الاختيار انتقاداً ضمنيّاً، وَجَّهه السلاّمي إلى أستاذه الطّاهر بن عاشور (1869 - 1972)، صاحب "التحرير والتنوير"، لتضمّنه مصطلحات البلاغيين والأصوليين والتي تجعل من العسير فَهم شروحِهِ، حيث تقوم تلك المصطلحات حاجزاً منيعاً دون الاستفادة منه.

ولا ننسى أنَّ هذا التفسيرَ ظهر على فَتْرَةٍ من التفاسير السابقة، فآخرُها كان شرحَ ابن عاشور هذا، الصادر في الفترة الممتدة من الثلاثينيات حتى الستينيات، وما عدا ذلك فأعمال تبسيطيّة، كتلك التي أنجزها محمد علي الصابوني في "صفوة التفاسير". وعليه كان المشهد التفسيري شبه خالٍ من محاولات حديثةٍ توازي الآثارَ الكبرى، والتي لا يلج غمارَها إلّا المختصّون، إلا أنها لا تفي بمَقصود القارئ المعاصر، وهو مَلول.

وقد لا يخلو المنهج الذي اتَّبَعه السلامي، أحياناً، من التكرار، ذلك أنَّ الفرقَ بين المعنى الإجمالي والمعنى العام دقيقٌ، وقد يَتَكرّر ما وَرَد ذكره في الشرح الإجمالي ضمن التحليل المفصّل. وهذا ما جعل تفسيره، في بعض فقراتِه، مجرّد سرد للعموميات وتذكير مُكرّر لما قيل، باعتبار أنَّ القرآنَ نَفسه يلحّ على بعض الموضوعات فيوردها بِصياغات وسياقات مختلفة.

"نهجُ البيان" عملٌ جادٌ، قراءةٌ شاملة للهَدْي القرآني على ضوء المقولات الكونية وما استَقَرَّ في العصر الحديث من المبادئ العامة. توسَّل بلغة واضِحة من أجل الاضطلاع بِدور مجتمعي، وَعد به المفسِّر في المقدّمة، حتى تعود لكلام الله وظيفته الأصلية: الهُدى والتوجيه الرّوحي، بَعيداً عن تكلفات المفسّرين وإسقاطات المنتحلين الذين مسخوا حقيقته وأغرقوه في صراعات التاريخ وتناقضاته.

ولهذا، غاب التاريخ من هذا التفسير، فلَم يُحِل على ما جرى من الأحداث الجسيمة التي هزّت المجتمع العربي إبّان الثورة. طَمَح "نهجُ البيان" إلى أن يوجّهَ القارئَ المسلم المعاصر لبَوصلَة الكون اللامتناهي، وأن يُرجعه إلى كتاب الفِطرَة والعقل وحقوق الإنسان. ونظنُّ أنَّ الشيخَ قد نجح في ذلك إلى حدّ كبير.


الشريعة والاقتصاد
نشأ محمد المختار السلامي (1925 - 2019) في مدينة صفاقس، وشَغَل منصبَ الإفتاء في تونس بين 1984 و1998. تَلقَّى تعليماً زيتونياً مكَّنه من خوض غمار الشؤون الدينية وكان أن تَخصَّص في الشؤون الاقتصادية، سعياً إلى تقريب الشقة بين المعاملات البنكية الحديثة ومقولات الفقه الإسلامي. تَرَكَ من الكتب اثنَين وعشرينَ في مواضيع الاقتصاد والاجتهاد ومَقاصد الشريعة وحقوق الإنسان، من أشهرها: "الأسرة والمجتمع"، و"الاجتهاد والتجديد"، و"البحث في مقاصد الشريعة: نشأته وتطوره ومستقبله". وممّا اشتهر عَنه أنه تَبَرَّع، قبل وفاتِه، بمكتبته الخاصّة، وبها أكثر من أربعة آلاف كتابٍ ومخطوطٍ إلى المكتبة العمومية في صفاقس.

المساهمون