"معجم الدوحة التاريخي": أن تكمل العربية ما ينقصها

10 ديسمبر 2018
نحت بالخط العربي لصباح الأربيلي، الدوحة (تصوير: فاليري شارفيولين)
+ الخط -

كان الواقع مُقلقاً، غير مفهوم: لم يَصدر، حتى سنواتٍ قليلة خَلت، معجمٌ تاريخي للضاد رغم ما يُبديه العرب من تعلّقٍ بلغتهم وصبرٍ على خدمتها. فهُم يعلمون أنَّ تطوّر دلالات الكَلِم من قوانين اللغة التي لا تتخلّف وأنها لا تثبت على حالٍ، بل تتّسع وتضيق بحسب الاستعمالات الطارئة والسياقات المتحوّلة.

ولئن أدرك لُغويّونا القدامى هذه الحقيقة باكراً وجهدوا في رصد تغيّرات المعنى، فإنَّ همَمَهم انصرفت أكثر إلى تدوين "كل لفظة قالتها العَرب" حفظاً لها من الضياع. غلَّبوا هاجس الجَمع على تَرَف الترتيب. وأما في الغرب، فقد أنشئت معاجم تاريخية منذ عقود، عُنيت برصد التحوّلات التي تطاول ألفاظ لغاته، مثل الألمانية والإنكليزية والفرنسية.

على أنَّ أهل الضاد نادوا، منذ بدايات القرن الماضي، بإنشاء مثل هذه المعاجم ومن أبرز المنادين بذلك جرجي زيدان وعبد الله العلايلي وأحمد أمين. ولكنَّ دعواتهم لم تلق آذاناً صاغية لتعقد المشروع. وجَهد المستعربون، مثل رينهارت دوزي وريجيس بلاشير وشارل بِلا، من جهتهم، في تحقيق هذا المطلب النفيس. ويشار هنا إلى أنَّ المفكر محمد أركون بنى جلَّ أعماله النقدية، في إعادة قراءة الفكر الإسلامي، على مثلث: اللغة- الفكر-التاريخ، داعياً إلى تدشين "سيمائية تاريخية وبنيوية" خاصة بالعربية من خلال معجمٍ تطوري.

ولكن استمرّ الحال بين تسويف وتوجّسٍ وأمل حتى تهيّأت الظروف المعرفية والمادية سنة 2013، فأبصر هذا المشروع الضوءَ أخيراً في قَطر. وستُرى ثمراتُه، التي شملت في المرحلة الأولى متنَ الضاد حتى القرن الثاني للهجرة، عبر بوابة إلكترونية تضم سائر المعاني التي طرأت على الكلمات مع تحديد تواريخ، تقريبية أو دقيقة، لظهورها وذكر المدونة/ات التي احتضنتها. ولا يخفى أنَّ قيمة هذا العمل لا تكمن في تجميع الدلالات ومُراكمتها، بل في اتباع منهج صارم تُذلل على ضوئه الصعوبات الإبستمولوجية التي تحول دون ترتيبها زمنيًا ضمن سردية ترسم مسيرة كل كلمة عبر الزمن، زمنِ تداولها أو ضياعها.

تكمن أولى صعوبات هذا العمل الاستقصائي في تحديد المدوّنات التي ستُلحظ فيها تلك التحولات. إذ لا يمكن الاعتماد فقط على القواميس التقليدية، بالغةً ما بلغت في الدقة والإحاطة، مثل "لسان" ابن منظور و"محيط" الفيروز آبادي و"تهذيب" الأزهري . فلم تَذكر هذه الأخيرة المعانيَ ضمن منظور زمني (كرونولوجي) بل طيَّ عرضٍ شمولي، يغيب فيه أحياناً المنطق التطوّري، لأنّ غايتها كانت حفظَ ما "نطقت به العرب" من التلاشي.

وأما ثاني الصعوبات، فضرورة المقارنة بين الوَحدات التي يمكن أن تشكل حقلاً متجانساً، فلا يمكن استخلاص تاريخ دلالي لكل جذر/ كلمة/ مفهوم على حِدة دون مقارنتها بغيرها من الوَحدات الحاضرة في نصوص موازية، ظهرت فيها فانتسجت بينها علاقات تقابلية أو تكاملية. فمعنى الكلمة يتحدّد بما تعقده من الروابط مع ما جاورها أو تباعد منها. ولذلك يكون حضور أية كلمة بمثابة توثيق للمعنى في فترة من فتراتٍ شيوعها بين المتكلّمين.

ولا بد بعد ذلك من ضبط نوعية التغيّر الدلالي الذي يطرأ على الكلمات وتحديد آليته. فبعض الكلمات تتسع معانيها، وبعضها يضيق، وقد تقطع مع دلالة جذرها الأصلي أو تُضيف إليها، وقد يخرج بعضها الآخر من الاستعمال تماماً فيلحق بسجلّ "الغريب النادر"، كما قد تفقد جزءاً من معانيها مع بقائها حيةً بين الناس. علماً أنّ مفردات أي لسان محكومة بمبدأ التداولية (pragmatique)، وهو الذي يولد، لدنَ كل استخدام جديد، معنى حادثاً. وقد شكلت هذه الآليات المعقدة موضوع دراسة معمقة كتبها المستعرب الفرنسي جوزف ديشي بعنوان "التوليد المتراكب: وفاء المعجم المتناقض لذاكرته"، حيث تظل الكلمة وفية لمعناها القديم، ويتصل غالباً بالصحراء، مع إحالتها على معانٍ ثوانٍ، تنبثق في منعرجات التاريخ وفترات الاحتكاك بالآخر.

وهو ما يستتبع رصد أهم المحطات التي كانت حُبلى بالتوسّع الدلالي، مؤثرةً فيه، ومن أمثلتها حركة النقل والترجمة في "بيت الحكمة" أثناء العهد العباسي الأول وازدهار الفتوحات الإسلامية بمناطق آسيا الوسطى والهند، ثم طور النهضة وصدمة الحداثة الغربية، وبعدها حقبة الاستعمار، وأخيراً وليس آخراً القفزة الرقمية وما أسفرت عنه من المعاني والمصطلحات. فلا يخلو دورٌ تاريخي من التأثير في علاقة الألفاظ بمراجعها. وتترتب من هذا العائق صعوبة تعيين تاريخ دقيق يرتبط بالتحوّل، فلا يعني الحضور المكتوب لكلمةٍ، في سنة ما، ظهورَها في نفس تلك السنة، فضلاً عن أنَّ جلّ التغييرات لم تُسجل آنذاك تواريخُها.

وهكذا، فعوائق "معجم الدوحة التاريخي" ذات طبيعة منهاجية بحتة، تتصل بتعيين الموارد والمدونات التي سيعتمدها محرروه وبضبط معايير مصداقيتها وقيمتها التوثيقية والمعرفية. ويبدو أن هذه الصعوبات الجمّة ذُلِّلت، وستذلل أكثر في المراحل اللاحقة، حتى تقدم هذه البوابة سرداً وافياً شافياً لما تحمله الكلمات من مَديد الذاكرة.

وتبعاً لكل ذلك، فإن تأخر صدور هذا المعجم يعود إلى صعوباتٍ موضوعية، لا يمكن تعليلها، سطحياً بالخلافات بين المجامع اللغوية العربية وتباين رؤاها، ولا بالتكاليف المادية الباهظة لهذا المشروع، ولا حتى بقلة الكوادر المختصة بمثل هذه الأعمال، بل بصعوبة صياغة منهج صارم يساعد في ضبط المحطات المفصلية التي مرت بها كل كلمة. وحريٌّ بنا أن نتذكر أنَّ الضاد تتوفّر على قرابة 8000 جذر، وأنّ كل جذر كفيل بأن يُشتق منه ما يزيد على ثلاثين كلمة، لندرك صعوبة التحقيب الدلالي لكل واحدة منها ورصد ما يطرأ عليها من التحوّلات، بسيطها وعميقها، وربط كل واحدٍ منها بتاريخ دقيق، يؤيده مصدر موثوق.

وأما نشر هذه نتائج هذه الأبحاث، وهي شاقة شيقة، في موقع الكتروني مفتوحٍ للجميع فهو مما يضاعف قيمتها، فلن تنكفئ المداخل المعجمية بين دفتي كتابٍ، لا يَمَسُّه إلا المختصون، بل ستُتاح لكل الراغبين في تدقيق معاني الكلمات وتحديد الحقل الذي تنتمي إليه، وستهديه هوامش إضافية، قد يلجأ إليها القارئ الظمآن.

صدور القسم الأول من "معجم الدوحة" سابقةٌ في علوم العربية تبعث على الاعتزاز. ولا تنحصر قيمته في ما يتضمنه من المعلومات، فقد تنتابها، شأنَ كلِّ عمل بشري، أوهام وأخطاء. ولن تُسلم معاني الضاد مقادَتَها بسهولة ولن تَفتح أبوابها لأول خاطبٍ. ولذلك، نتطلع من خلاله إلى قِصَّة كل كلمةٍ، عبر الزمن، حتى نرى جذور ما نستخدمه اليوم منها في تسمية أشياء عالمنا الحديث، مما يؤكد، على صعيد فلسفي، تاريخيَّة المدلولات الذهنية، فليست هي بالمتعالية ولا في الغيب ثابتة، بل هي مَسيرة وذاكرة وقطائع لا تني تتحوّل على مر العصور.

المساهمون