"مجانين حلب" للينا سنجاب: مرايا الوثائقيّ

28 يونيو 2019
لينا سنجاب: حكايات مدينة وأناس (فيسبوك)
+ الخط -
يُحيل عنوان الوثائقي الجديد للينا سنجاب إلى معانٍ ودلالات مختلفة. "مجانين حلب" معنيٌّ بتوثيق لحظات قاسية وصعبة في تلك المدينة السورية، عام 2016 تحديدًا. الحصار والقتل والاختناق ونقص المستلزمات الأساسية، أمورٌ تعطب مدينة وناسها، في مقابل تحدّيات يحاول محاصرون فيها مواجهتها بكلام وموقف وانفعال وتصرّف وسلوك. الطبيب حمزة الخطيب ـ المشرف على "مشفى القدس"، المشفى الوحيد الصامد في مدينةٍ يُراد لها غياب مطلق ـ شخصية أساسيّة، ومحور الحبكة والسرد، ومرآة تنعكس عليها أحوال المدينة وآلام الناس، وتبرز عبرها مخاوف وتحدّيات ومواجهات وتساؤلات. 

العنوان صائبٌ، فالبقاء في المدينة، قبل إخلائها من المحاصرين فيها (ديسمبر/ كانون الأول 2016)، أشبه بجنونٍ يُقابل جنون نظام قاتل، يستند إلى حلفاء قاتلين. الخروج من تحت أنقاض مبنى، وإنْ بإصاباتٍ مختلفة، أشبه بجنون يتحدّى جنون راغبٍ في القتل والسحق والإلغاء، فالجنون الأول طلبٌ لعيشٍ رغم كلّ شيء. الإصرار، وإنْ لفترة محدّدة، على تشغيل مشفى تنقصه أدوات ومعدات ومتطلبات، أشبه بجنونٍ يُناقض ذاك الذي يتحلّى به قاتل لن يردعه شيء قبل تصفية آخرين، لأن هؤلاء الآخرين يرفضون الانصياع له.

جنونُ حلب يبرز في وثائقيّ لينا سنجاب ـ المعروض في بيروت "عرضًا خاصًا" في 14 يونيو/ حزيران 2019 بدعوة من "هاينريش بول" (أما موعد إطلاقه الرسمي فغير مُحدَّد بعد) ـ بأشكال مختلفة. التقاط مظاهره يعكس نبض مدينة وناس، ويكشف ـ في الوقت نفسه ـ مزيدًا من وحشية قاتل. جنون مدينة وناسها نابعٌ من تمسّك بالمدينة وبمواجهة جلاّدها بأبسط الأساليب وأعمقها. أما جنون الجلاّد، فعنيف ودموي، كعادة الجلاّدين.

جنون السفّاح غير ظاهر مُباشرة، لذا فتوثيقه مُهمّ. المباشرة طاغية في مفاصل أخرى، وهذا ضروري. توثيق غير المُباشر ينعكس في التقاط فعلٍ جُرمي عبر تبيان وقائع العيش اليومي في الغبار والعتمة والارتباكات والصراخ والأنين والدم، وأيضًا في أملِ غلبةٍ، ولو فردية، تتمثّل بلحظاتٍ جميلة وقليلة، تخرج من سياق الخراب والموت، كي تقول جنونًا بهيًا. لحظات تجمع الطبيب حمزة الخطيب بابنته في منزلهما، أو في إحدى غرف المشفى؛ أو تجمعه بفتيات وفتيانٍ يلعب معهم، قبل أن يُغنّوا معًا أمام مقبرة. لحظات تقول فرحًا ولو مؤقتًا، فالحياة مؤقّتة، والخيارات مؤقّتة، والألم والتمزّق مؤقّتان وإنْ يبدوان كأنهما دائمَان.

المباشر مطلوب. قسوة الجريمة محتاجة إلى توثيق يُضيف إلى الموثَّق سابقًا ما يؤكّد جُرمًا، ونمط حياة في مواجهة الموت. يسرد الخطيب يوميات أناس يُقيمون في جحيمٍ، فيحاول بعضهم عيش ضحكة من هنا، أو سخرية من هناك. الدمعة حاضرة في عينيّ الممرضة أم إبراهيم، التي تقول إنّ ما تفعله هي وبعض الآخرين "جنونًا". تترك زوجًا وأولادًا في تركيا، فحلب محتاجة إليها، و"من لا وطن له لا روح له".

تعبير مباشر كهذا جزءٌ من مواجهةٍ تُصنَع في مشفى، يُصرّ على "البقاء حيًّا" رغم كلّ شيء، فهو الملاذ الأخير لمُصابين في الجسد والروح. تعليقات عاملين وعاملات في المشفى تعكس نبض حياة في قلب الموت. تعليقات في السياسة والواقع والرغبات أيضًا. استعادة جريمة قديمة تفسيرٌ للجريمة الآنية: "تزوير الحاصل سابقًا تمهيد للتزوير الحاصل راهنًا". خلاصة تُقال في سياق بحثٍ في الآنيّ المعطّل. في الثمانينيات الفائتة، "تزوير" يقول إنّ الحاصل حينها سببه "الإخوان" (تلميح إلى جريمة حماه)، واليوم يُراد تزوير واقع بالقول إنّ المسألة سببها "الإخوان" أيضًا، ولا "إخوان" هنا الآن.

هذا جزء من كلّ في "مجانين حلب" للينا سنجاب. الأسئلة كلّها معلّقة. التوثيق يتابع مجريات اليوميّ تاركًا للكاميرا (تصوير عبدالقادر حبق وميّار الرومي) مساحتها الخاصّة: تلتقط ما يحصل، قبل أنْ يستكمل التوليفُ (نبيل محشي) الصنيعَ الوثائقي، المستند إلى ميزات عديدة، أبرزها البساطة السينمائية. الاكتفاء بالتقاط ما يحصل أساسيّ. للتوليف دورٌ في تمتين الحكاية وتشذيبها من أي تصنّع أو تكلّف. الوقائع قاسية، والكاميرا متمكّنة من توثيقها. هذا كافٍ. لا حاجة إلى إضافات سينمائية، كالتحريك أو التمثيل/ المتخيّل، وإنْ يكن هذا جانبٌ مهمّ في صناعة السينما الوثائقية الراهنة. لينا سنجاب معنيّة أكثر بتواصل مباشر مع الواقع ومجرياته اليومية. الواقع غنيّ بما يُلبّي رغبة تأريخ اللحظة بصريًا. الإضافات جزءٌ من سينما وثائقية، لكن "مجانين حلب" غير محتاج إليها. الشخصيات قادرةٌ على صون وقائع كثيرة من الاندثار، وكاميرا حبق ـ الرومي قادرة على التقاط ما تقوله الشخصيات، وما تعيشه الشخصيات، وما تُحسّ به الشخصيات. الخروج من جحيم حلب قدرٌ. الذهاب مع بعض الشخصيات إلى منفاها محاولة بصرية لمتابعة المسار الدرامي للحكاية. أم إبراهيم "قادرة" على البقاء في حلب من دون زوجها وأولادها. الطبيب حمزة الخطيب يلتزم موقفًا أخلاقيًا ومهنيًا. لكن الإخلاء حتميّ، والخروج ضروري. طبيب البنج وإمكانية الإصابة بأمراضٍ جرّاء تصوير الأشعة عشرات المرات في اليوم الواحد مثلٌ حيّ على قسوة الواقع، وصدمة البقاء في الجحيم.

هذا كلّه يستدعي تساؤلات. إخلاء المدينة لحظة تأمّل بما قبل وبما بعد. "مجانين حلب" شهادة إضافية في سياق التوثيق السينمائيّ لوقائع وعيشٍ ومواجهات ومصائر. هذا كلّه غير محتاج إلى متخيّل سينمائي، فهو الأصدق.

بعد تحذيرٍ يقول باحتواء الفيلم على مشاهد قاسية، يظهر تقديم للفيلم باختصار شديد. تُغادر (المخرجة) سورية عام 2013، لكنها تبقى "مسكونة" ببؤس تصنعه قوات النظام الحاكم. تمضي الأيام. يزداد الحصار العنيف على شرق حلب المحاصرة عام 2016. عندها، تُقرِّر "توثيق استهداف المستشفيات والفرق الطبيّة". هذا جوهر المشروع. النظام القاتل يُدرك تمامًا أنّ تحقيق مُراده الجُرمي يمرّ على أنقاض المستشفيات. "مشفى القدس" صامدٌ رغم كلّ شيء. "مجانين حلب" يُصنع هناك، رفقة الطبيب حمزة الخطيب وآخرين.

التحذير من "المشاهد القاسية" ضروري، لكن الواقع أقسى وأخطر. الاكتفاء بنقل مجريات أحداث يومية جوهر فيلمٍ يريد توثيق الآنيّ. الأفعال اليومية لشخصيات أساسية وغير أساسية تُحفَظ كما هي، فتشذيبها السينمائيّ يُسقط عنها مصداقيتها. أقوال وانفعالات وتفاصيل تعكس ارتباكات ورغبات وأحلام ومواجع. هذا يصنع مصداقية أعمق لفيلمٍ يبتعد عن السياسي والفكري والأيديولوجي، فالناس أهمّ. متابعة عملية الإخلاء بجوانبها والمشرفين عليها جزءٌ من حكاية "مشفى القدس" وحلب والناس. لقطات عديدة تبدو سينمائية ببساطتها. لقطات علوية وأخرى مقرّبة، وبعض ثالث يبدو كأنه يتوغّل في نفوس ومشاعر. هذا كافٍ.

"مجانين حلب" وثيقة تستند إلى السينما في لعبة مرايا، والمرايا تفضح وتوثِّق في آن واحد.
المساهمون