"نحن في الداخل": خاصٌّ يطاول عامّاً موجعاً

15 يوليو 2024
فرح قاسم ووالدها الشاعر مصطفى: "نحن في الداخل" (الملف الصحافي)
+ الخط -
اظهر الملخص
- فرح قاسم تعود إلى طرابلس بعد 15 عاماً وتستقر في شقة والدها الشاعر مصطفى قاسم، وتقترح تصوير حياتهما كأب وابنته الشابة، حيث يتماهى والدها مع تصوّرها السينمائي ويقضي وقته مع أدباء المدينة.
- فيلمها الوثائقي "نحن في الداخل" (2024) يركز على الحوارات بينهما، ويكشف عن روابط عائلية وإنسانية أوسع، ويعكس رغبة الشعراء في الانعزال عن العالم الخارجي المأزوم.
- الفيلم يعكس حالة والدها الصحية المتدهورة وحزنه الكامن، وتراقب فرح التغيرات النفسية والجسدية لوالدها، مما يجعل الفيلم يتجاوز البورتريه الشخصي إلى علاقة إنسانية عميقة.

 

من دون حاجة إلى توضيح أسباب عودتها إلى طرابلس، بعد غياب 15 عاماً، تضع فرح قاسم (1987) نفسها في شقّة والدها، في تلك المدينة اللبنانية، كأنّها لم تغادر ذلك المكان إلا لساعاتٍ. تقترح على مُصوّرها تيبي شونينغ التعامل مع وجودهما في مكان واحد كما لو أنّهما (أب عجوز وابنته الشابّة) يمضيان حياة سوية لا انقطاع فيها، تفضي في نهاية المطاف إلى افتراق محتوم. والدها، الشاعر مصطفى قاسم، يتماهى بعفوية مع تصوّرها السينمائي، ويتعامل مع وجودها كما لو أنّها لم تغادر منزله يوماً.

شاعر يتلهّى ويستأنس بالكلمات والصُّور الشعرية، ولا يعرف عالماً غيرهما. يتشارك مع أشباهه من أدباء المدينة شغفه الأدبي، ويمضي جُلّ وقته معهم. شعراء في سبعينيات أعمارهم، يتبادلون الكلمات، ويعيدون فيما بينهم صوغ أبيات شعرية يكتبونها، كأنّها تبقيهم أحياء.

تشغل الحوارات بينها وبين والدها المساحة الأكبر من زمن وثائقيّها "نحن في الداخل" (2024)، وعبرها تتكشف وشائج عائلية، تتّسع مديّاتها لتطاول تخوم عوالم إنسانية أوسع، لا تستعجل فرح الكشف عنها. هذا يترك حرية أكبر للتوليف السينمائي للتحرّك، فما تلتقطه الكاميرا من ضيق المساحة ـ الشقة يفتح التوليف البارع (نوس سكوف ياويبسن) فضاءات أكبر للخروج منها.

اجتماعات دورية للشعراء والأدباء في منازلهم، أو في المنتدى الأدبي الذي يلمّ شملهم، ويعتكفون فيه وحدهم في عزلة اختيارية. ورقة ملصقة على بابه، مكتوب فيها "نحن في الداخل"، تشير إلى رغبة في الانكفاء والانسحاب من خارج مأزوم، يقلق أعمارهم التي لم تعد تحتمل أحزاناً ولا أعباءً أكثر. تلتقط فرح ما في تلك العزلة البهية من أفراح عابرة، تلين قسوة مشهد عام يمرّ به لبنان، ويشعر بها كلّ مقيم فيه. شعراء بلغوا من العمر عتيّاً، يتناولون الحلوى رغم إصابة أكثريّتهم بـ"السكّري". يتمازحون ويتجادلون فيما بينهم حول الحداثة الشعرية وضرورتها، بينما يتحفّظ مصطفى قاسم عليها، ويُصرّ على كتابة الشعر المقفّى والموزون، وبغير هذا لا يعترف.

إلى هذا العالم، جاءت ابنته واقتحمته. فرضت نفسها بهدوء عليه. هي الشابّة، المنشغلة بعالمها السينمائي، تأتي إلى الأدب، وتقترب بمحاولاتها الشعرية من نخبةٍ، يؤشّر وجودها إلى حضور ثقافي ومعرفي متأصّل، السياسة تريد تغييبه لتسهل على المنتفعين منها "شيطنة" مدينتهم، ووصمها بـ"التطرّف".

هذا جانب لا تقترب منه فرح، لكنّ سلوك والدها وحواراتها معه، التي تتعمّد مشاكسته بها، إلى جانب تطوّرات دراماتيكية رافقت أحداثاً مسلّحة وتصادمات تشهدها المدينة، تراقبها الكاميرا بحذر عبر نافذة الشقّة؛ هذا كلّه يستنطق مواقفه ورؤياه المنفتحة اجتماعياً، التي لا تخلو تماماً من محافظة تقليدية.

 

 

في إهداء ديوانه لها ولأخيها، لا ينسى الإشارة إلى حسرته على "تأخّر زواجها"، رغم فرحته بالنجاحات التي حقّقتها بصفتها سينمائية. في المشهد العام، الجامع بينه وبينها، لا وجود لتعصّب ديني لديه. هناك سويّة في تعامله مع إيمانه، إذْ لا يفرضه على غيره، ولا حتّى على ابنته. حواراته معها تُجلي حزناً كامناً فيه، يُعبّر عنه بالشعر غالباً، وأحياناً شفاهاً. ما يمرّ به البلد من أزمات يُقلقه، وفي اللحظة التي انطلقت فيها الثورة اللبنانية ضد فساد الحكام تعاطف معها، مع بعض انحياز ضمني إلى مناطقيّته، لكنّه لم يذهب أبعد من هذا. مثل ابنته، شيّد في ذهنه حلماً جميلاً لوطنه، لكنّه انهار سريعاً وتلاشى. حالته الصحية، الآخذة بالتدهوّر، تأتي إليها فرح عبر ملاصقتها الشديدة واليومية له، ومن خارجها تتشارك معهم حمامات بَنَت أعشاشها ووضعت بيوضها على حافة نافذة الشقّة، وبدت كأنّها جزء منهم. تراقب الكاميرا وجودها وما يجري في الخارج من تصادمات، عبر تلك النافذة الضيقة، كما تعاين حالة الشاعر النفسية والجسدية وتسجل تغيّراتها.

الزمن في الشقّة يمضي ببطء، ويعزّز إحساساً بأن نهاية الشاعر آتية. لم تفتعل صانعة الوثائقيّ، المدهش في قوّة اشتغاله الجمالي وتشبّع مساراته الدرامية بشاعرية ظاهرة، ذلك الإحساس. تتركه كما هو، ثابت الحضور منذ لحظة وصولها إلى طرابلس حتّى لحظة موته. ولأنّها لا تميل إلى استجداء عواطف مجانية من المتفرّج على فيلمها، تعمّدت طيلة زمنه (177 دقيقة) ترك الأحداث والتفاصيل اليومية الحضور بنفسها كما في الواقع. ولإضفاء روح درامية على وقائعها، تتكفّل الموسيقى التصويرية (يون سنسماير) في ضبط انفعالاتها، وتأطير تصاعدها، وفق المكتوب على الورق (السيناريو للمخرجة أيضاً)، أو ما يأتي عفوياً أثناء التصوير، ويُراد له أنْ يساهم في تشكيل منجز سينمائي يتجاوز "البورتريه الشخصي" إلى الأعمق في العلاقة الإنسانية الجامعة بين أب وابنته، الخائفة من أن يأخذ النسيان معه ذكريات تريد الاحتفاظ بها، حتى لا يطويها الغياب، وتندم فيما بعد على ضياعها.

المتحقّق في المنجز السينمائي لفرح قاسم يؤكّد اختيارها نسقاً أسلوبياً لبنانياً خاصاً، أضحى مع الوقت جزءاً من هوية سينماها الوثائقية. أسلوب ينطلق من العائلي الحميمي إلى العام المتأزم، من دون إقحام الأخير في مساراته العاطفية والانفعالية. هذا يجعل "نحن في الداخل" أحد أجمل أفلام ذلك الأسلوب الذي لا يجيده سوى من تمرّن على حرية التعبير، وتحلّى بشجاعة داخلية، ستكون في النهاية شرطاً لازماً لإنجاز وثائقي رائع كوثائقيّها.

المساهمون