"فلسفة" الشأن العام

21 يونيو 2016
لوحة للفنان مارك رشلفيتش (Getty)
+ الخط -
يعيد الفيلسوف التونسي فتحي التريكي في هذا الحوار طرح قضيتين تندرجان في صلب هواجس الفكر العربي في الزمان الراهن. 
وبالإمكان أن نوجز غايتين مركزيتين من إعادة طرحهما، يسوقهما سياق المساءلة التي يقتفي أثرها على النحو التالي:
أولًا، تأسيس "الديمقراطية الجديدة" في المجتمعات العربية على أرضية ثقافية مدنية صلبة. وفي هذا الموضوع تحديدًا يركز التريكي هنا، كما في أبحاثه عمومًا، على دور الثقافة في المجتمع، ولا سيما العربي الذي يعتبره غائبًا، مثلما ينمذج على ذلك من خلال التجربة التونسيّة.
ثانيًا، النظر إلى الهوية بصفتها مستندة ليس فقط إلى ما اكتسبه صاحبها من الماضي، بل أيضًا ما اكتسبه وما يزال من الحاضر، وما قد يكتسبه في المستقبل. ويأخذ على كثيرين اعتبارهم الهوية هي التأصيل - وهي حركية تعيد إلى الماضي إشعاعه - منبّها بأن هذا الفهم للهوية هو الذي سيطر واستمر، وأنه ما دام هذا التصوّر هو المهيمن ستبقى دائمًا الهوية عائقًا من عوائق التقدم.
من الواضح أن التريكي لا يرفض مبدأ استكناه الأصول، ولا يدعـو إلى إهالة التراب على الماضي كله، ففي معظم دراساته يشدّد على الذاكرة التي تبقى ركيزة الحاضر وعلى التقاليد، لا لكونهما حضور الماضي بعد تنقيته وصقله ولإعادة تأسيسه فقط، بل أيضًا لأنّ الذاكرة هي استمرار حيوي ومتجدّد للوظائف الثقافية والاجتماعية والحياتية.

ويعرب عن قناعته بأن الحداثة لم تكن يومًا تقويضًا للذاكرة ولا تحطيمًا للتقاليد، فهي بالأساس استخراج الإحداثيات وإعادة صياغتها لتتأقلم مع القسم النيّـر والمفتوح من التقاليد والذاكرة حتى تتجاوز ما كان يعوق تطورها ويشدّها إلى التدهور.
وخلال هذا كله يلفت إلى أن الفكر لا بُدّ له من أن يؤدي دورًا استراتيجيًا في حبك الروابط بين ما يسميه "نقط الاستهراب "و"نقط التجذر".
وعندما يتطرّق إلى نقط التجذّر يحذّر من مغبة "الانغلاق في الهويات القاتلة"، ويعني بالاستهراب عامة الهرب نحو التحديث والمعاصرة دون التمكن من إيجاد سبل التوازن بين الأشياء، مشيرًا إلى أن إعادة تأسيس مهمّة المعقولية العربية في وضعنا الحالي تتطلب صياغة تصوّرات جديدة لتلك الروابط ومن ثمّ للتحديث من حيث هو عملية ضرورية تقوم على جدلية العودة والتجاوز، وتحدّد التقدم اعتمادًا على استراتيجية الربط بين الاستهراب والتجذر.

يجاهر التريكي هنا، ليس لأول مرة، أن على الفيلسوف أو رجل الفكر أن يهتم بالشأن العام مرجحًا أهمية سلطته الفكريـة. ومطلوب أن يكون هذا الاهتمام منطويًا على نزعات انتقادية، فالخطر الأكبر الذي يهدّد المجتمعات العربية يتمثّل في "عدم القدرة على النقد الجذري لأوضاعنا وفكرنا وثقافتنا وملامح هويتنا كما يتمثّل في التمسّك بالأيديولوجيات الماضية وبالاتجاهات الفكرية التقليدية وكأنها هي الوحيدة التي تبني هوياتنا".
وهو يشير إلى أن كتابه "فلسفة الحياة اليومية" آذن باتجاهه المخصوص في هذا الصدد.
ولدى العودة إلى الكتاب المذكور نجد أن التريكي حدّد مجاله ورؤيته كما يلي: "سأحاول في هذا الكتاب أن أتناول بالبحث إشكالية علاقة الفلسفة الحالية بالواقع المعيش وأن ألقي بعض الأضواء حول مقاربات اليومي الممكنة من وجهة نظر فلسفية". وأيضًا "يجب ألا نعتبر كل ما هو يومي بديهيًّا ولا يقبل إشكالًا ولا يستدعي تفكيرًا".

لا تنبع أهمية هذه الأقوال فقط من كونها تصوغ تحديًا للفكر الفلسفي العربي وتعرض مسار الاستجابة له، بل أيضًا من كونها تسعى لأن تمحور الاهتمام حول مركّب شديد الأهمـيّة في أي ممارسة فكرية، هو مركّب العلاقة العضويّة بين الإنسان والواقع.

إنه مركّب مهم ليس في الفكر وحسب وإنما أيضًا في الثقافة عمومًا، وفي قلبها الإبداع الأدبـيّ.
في هذه السنة تصادف ذكرى مرور مئة سنة على صدور كتاب "صورة الفنان في شبابه" للأديب الإيرلندي المهاجر جيمس جويس، والذي رأى البعض أنه أقرب إلى السيرة الذاتية.
وما بقي من هذا الكتاب لمؤلفه، الذي عُدّ من أبرز الروائيين العالميين في القرن العشرين ومن أهم ممثلي رواية "تيار الوعي" الحديثة، هو قدر كبير من الأمانة الفنية والاستقامة الفكرية في تصوير أدق خبايا نفس الفنان محايثًا لعصره وهمومه.

وانسجامًا مع ما كُتب هنا، نختم بما ورد على لسان جويس حول الإبداع: إن عمل الفنان هو أن يكون وسيطًا بين عالمين: عالم مليء بتجاربه وآخر حافل بأحلامه. وتبعًا لذلك فالمبدع هو وسيط وصاحب موهبتين: إحداهما تساعده على الاختيار والانتقاد، والأخرى تمكنه من الخلق والإبداع. والتوفيق بين هاتين الموهبتين هو سر عبقرية الفنان.​
دلالات
المساهمون