"بتستاهل".. تعويض افتراضي لفشل التطبيع الحقيقي

26 مارس 2015
أحد منشورات صفحة "بتستاهل"
+ الخط -

يقول المثل الإنجليزي: "يمكنك أن تأخذ الحصان إلى الماء لكن لا يمكنك إجباره على الشرب". لكن يبدو أن الثقافات جميعها أنتجت تلك الأمثال، ومثيلاتها من الحكم والأقوال المأثورة، وكرّستها عبر الأزمنة لا بسبب فعاليتها وصلاحيتها المجتمعية في تنظيم سلوك الناس أفراداً وجماعات، وإنما، ويا للمفارقة، بسبب رغبة البشر في تكرار المماحكات ومعاندة التجارب السابقة.

في الواقع، إن معاندة الأمثال وتحدي رسائلها العملية والأخلاقية هي مسألة محمودة (فضلاً عن كونها قضية ثقافية اجتماعية تستحق التأمل والدراسة)، لأنها تقوم بتثبيت خبرات الأشخاص انطلاقاً من تجاربهم الذاتية، لا من تجارب الآخرين.

هذه المقدمة كانت ضرورية للتعبير عن فرحي الشخصي وتفاؤلي العميق بحصانة المزاجين العربي والإسلامي إزاء التطبيع مع إسرائيل، خلال تصفّحي لإحدى الصفحات الإسرائيلية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، والتي تحمل عنوان: "بتستاهل" (بالعربية والعبرية). لا سيما أن الخلاصة التي يخرج بها المرء بعد معاينة المنشورات واستقصاء محتوياتها تحيل، بما لا يدع مجالاً للشك، إلى يأس الإسرائيليين وإحباطهم بسبب فشلهم في رفع منسوب التطبيع مع الشارع العربي، فقرّروا اللجوء إلى "التطبيع الإلكتروني" عبر الاحتيال والفبركات المتذاكية، من أجل إجبار الحصان على الشرب.

والصفحة إياها موظّفة لدعم جيش الاحتلال الإسرائيلي وتنشر على نحو متواتر رسائل وفيديوهات مصورة أرسلها، بحسب مزاعم القائمين على الصفحة، عرب ومسلمون من العراق وسورية والمغرب والأردن واليمن.. إلخ، باللغات العربية والإنجليزية والعبرية.

لا يكشف هؤلاء الأشخاص عن وجوههم (كنوع من الاحتياط لضمان أمنهم الشخصي!) وللتدليل على جنسياتهم يتم إظهار جوازات سفرهم، في لقطات يُراد منها التدليل على انتمائهم إلى هذا البلد أو ذاك. وهم من نوع الأشخاص الذين يؤمنون بالسلام مع إسرائيل، ويمكنهم التعبير عن آرائهم تلك بلغة إنجليزية خالية من اللكنات المتصلة بلهجات البلدان العربية، لكننا (خلال مشاهدة الفيديوهات) لا نعرف مدى إجادتهم للغة العبرية التي يرطنون بها خلال بثهم لعبارات "الود والتحية للإسرائيليين".

في أحد الفيديوهات المنشورة، يظهر صوت لشخص يفترض أنه عراقي قرّر أن يبث رسالة حب لإسرائيل على ضفة نهر دجلة. الدليل: لقطة مصورة لجواز سفر عراقي. الرسالة المبثوثة باللغة العربية الفصحى، تقول كما وردت: "مرحبا أنا مواطن عراقي من بغداد وأحب أن أبعث سلامي وحبي واحترامي للشعب الإسرائيلي العزيز. قررت أن أعمل هذا الفيديو البسيط لإيصال رسالتي لكم وأقول إنني سأقف دائماً معكم. كما نعلم كلنا، إن بلدينا ليسا صديقان ولكن هذا لا يعني بأنه لا يوجد من يدعمكم هنا. أنا أؤمن بأنه سيزداد عدد محبيكم هنا عندما يعرفون حقيقة إسرائيل ويتوقفون عن تصديق الأوهام والأكاذيب. تحياتي".

تتبع هذه الرسالة رسالة أخرى باللغة الإنجليزية بنفس المضمون تقريباً، تتعمد تصنّع لكنة دونما نجاح كبير. وحاز هذا المنشور على ما يزيد عن 400 إعجاب وأكثر من 400 مشاركة وقائمة طويلة من التعليقات التي أثار الكثير منها شبهات حول المقطع المصور والرسائل المتضمنة فيه.

وبالنسبة إلى بقية المنشورات فإن معظمها يعتمد تقنية واحدة للتأكيد، أو بالأحرى للتضليل، بأن مرسلها عربي من هذا البلد العربي أو ذاك، ودائماً عبر إظهار صورة علم الدولة أو جواز سفرها، وللواحد فعلاً أن يتساءل: هل رفع منشور مؤيد لإسرائيل على "فيسبوك" أو "توتير" يعرّض صاحبه للأذى؟ خاصة أن معظم البلدان العربية، كالعراق ومصر واليمن وسورية مثلاً، تشهد حالات من الفوضى السياسية والخلخلة الأيديولوجية.

هل فعلاً يخشى بعض المصريين على حياتهم فيضطرون إلى إخفاء هوياتهم عبر التعبير عن تأييدهم لإسرائيل، في الوقت الذي يقوم به المذيع توفيق عكاشة بالتعبير عن ذلك جهاراً نهاراً، وبحماسة منقطعة النظير؟ وهل فعلاً يحذو السوريون والعراقيون واليمنيون والأردنيون حذوهم؟

والجواب عن هكذا تساؤل معروف بالطبع، فإسرائيل نجحت بلا شك في أخذ الكثير من أحصنة الأنظمة إلى الماء الآسن (وأخذت في طريقها الكثير من الحمير والأبقار والأغنام والإبل) وأجبرتهم على شرب معاهدات سلام غير شعبية.

لكن فبركات صفحة "بتستاهل" في هذا السياق ليست أكثر من تعويض عن الفشل الإسرائيلي الذريع في نشر التطبيع مع الشعوب العربية وتعميمه وتعميقه. إنه فشل مضاعف.. ومتى؟ في أكثر الأوقات حرجاً وألماً بالنسبة للشعوب العربية التي يمر معظمها بامتحانات دموية عسيرة!


(سورية)

المساهمون