لا تزال المُدن بصخبها الذي يهزُّ الأحياء ومعمارها الذي يملأ الوعي تَفتن الأدباء، فإما يفرّون منها إلى الطبيعة أو بالعكس يندمجون في ضجيجها فيحولونه مصدر إلهام. وكما تتعدد أبعاد المدن في الواقع، فهي تستحيل في نصوص الفن استعاراتٍ.
وقد يواكب النقاد حضور المدن في الأدب، فيتعقبون تأثيرها في أجناس القول وأغراضه. ومن ذلك، كتابٌ صدر مؤخراً، باللغة الإنكليزية، عن جامعة أدنبرة الاسكتلندية بعنوان: "المدينة في الأدب العربي، من منظورات كلاسيكية وحديثة"، وهو مؤلفٌ جماعي من تحرير الأكاديميَيْن نزار فاروق هرماس، الأستاذ في جامعة فيرجينيا، وغرتشن هيد، الأستاذة في "جامعة يايل-سنغفورة"، وكلاهما متخصص في تدريس الأدب العربي.
يُسائل هذا الكتاب بفصوله الستّة عشرَ بعض التمثلات التي صاغها الكتّاب العرب حول المدينة بوصفها موضوعًا يتدبره العقل وغرضًا يَجنح فيه الخيال. وتغطي مقالاتُه مراحل الحضارة الإسلامية، بدءاً من العصر الأموي إلى يومنا هذا، مما يعني أنَّ اختيار المُحرّريْن المنهجي يشمل أطول حقبة ممكنة، لتتسنى متابعة مدى التحولات التي طرأت على صورة المدينة بما هي حاضنةٌ لنشاط الإنسان الاجتماعي، علاوةً على كونها موضوع رسم أدبيا.
وأما من ناحية الامتداد الجغرافي، فتحيل أبحاث الكتاب على حواضر المشرق والمغرب، على حدٍّ سواء، تتجوّل في أحيائها العصرية وتسير في دروبها القديمة. وقد يتسق هذا الخيار مع رغبة الدارسين في شمول البحث للفضاء العربي في كليّته، بما فيه من تنوع للمدن واختلافٍ لخصوصياتها المعمارية والبشرية، على مدِّ العُصور.
كُتاب هذه الأبحاث مستعربون وعَرب، تخصصوا في شؤون الثقافة والأدب، وسبق لهم إنجاز أعمال حول الإنتاج الشعري والروائي. وقد دارت أبحاثهم هنا حول محاور عامة، من بينها بيان دور الأعمال الأدبية، القديمة والحديثة، في رسم ملامح ذاتية للمدن، رغم التباين العميق في حساسيات الكُتاب وخلفياتهم الإيديولوجية. فقد نظر هؤلاء الباحثون إلى التاريخ الأدبي باعتباره مدونة واحدة، متصلة الأجزاء. فجهدوا في استنطاق أغراضها الشعرية، كالمدح والهجاء والرثاء، في علاقتها بالمدن، مع التركيز على غرض "الحنين إلى الأوطان"، وفيه أهم النصوص التي تَسترجع ذِكرى المنازل والديار.
وتبعًا لذلك، وسّعت هذه الأبحاث حقول استكشافها فعرضت لدواوين الشعر والروايات والسير والأخبار، رغم تباعد مراحلها التاريخية، مشددةً على الدور الذي أدته المدن في نهضة المغرب مثلاً، أو صورة الكتابة اليومية في بيروت... وكما هو متوقعٌ، فقد ركزت هذه الفصول على المدن "التمثيليَّة" الكبرى، سواء في العَصر الوسيط أو الراهن، مثل بغداد، القاهرة، القيروان، غرناطة وبيروت...
وتكمن طرافة الكتاب في تتبع أساليب تصوير المدينة في لوحات الأدب: فمع أنَّ المدن المدروسة حقيقيَّة، لها وجودٌ في التاريخ وامتدادٌ في الجغرافيا، فإنَّ صُورَها، في الشعر والرواية، يجعل منها أقرب إلى "حواضِرَ من ورق" وفضاءات من العِمران النصي وهندسة الكلمات، تفيض منها العواطف والأفكار.
فالمدن تُهجى طورًا، وتعشق طورًا آخر، أو تهجر أو يَنزع إليها الحَنين. في بعضها قَداسة لأنَّها وردت في القرآن، كما بيّن ذلك محمد سلامة في بحث بعنوان: "عدم قابلية ترجمة المدينة القرآنية"، وبعضها الآخر فَعلَ فيه الزمن، ونقلته أخبار الرواة، كالأزدي (ت. 946) في "تاريخ الموصل" أو السهمي (ت. 1036) في "تاريخ جُرجان"، فقد رسم هذان المؤرخان طوبوغرافيا حَضرية لمدنهم، وهو ما استعادته الباحثة هاري مونت، بينما اشتغلت بثينة خالدي على صياغة "فهرس طوبوغرافي لمدينة بغداد" في علاقة باحتضانها الصوفية وتكاياهم.
ومن فصول الكتاب مقالٌ كُتب بالاشتراك بين هدى فخر الدين وبلال أورفلي، خُصِّص لـ"هجاء المدن في الشعر العربي"، حيث عرضا لنماذج من أبيات الشعر، قديمها وحديثها، يَسب فيها أصحابها المدنَ وما انطوت عليه من مفاسد العمران وخبث ساكنته. وأطرف منه، ربما، دراسة سارة بن تاير حول: "جغرافيا المعنى الأدبي في مقامات الهمذاني والحريري".
ودون مفاجأة، خُصّص فصل لنكبة القيروان من خلال لامية ابن شرف: "آهٍ للقَيروان!"، أعده نزار هرميس، وآخر للأندلس، حيث بينت آنا كروز كيف صوَّرت المرثية الجغرافيا الأدبية والحِرفية لمدينة قرطبة. واستعادت كيلي تاتل مدينة المماليك باعتبارها "شبكات شخصية متداخلة".
ومن مدن العصر الحديث، آثر آدم طالب الحديث عن "المدن المُدمَّرة"، وتبعته في السياق نفسه غرتشن هيد التي تناولت جدلية "الطوباوية والدمار في مراكش". كما عادت ياسمين رمضان إلى "مشاهد من المدينة الثورية: يوسف إدريس والوطنية المتخيلة". وتناولت فاليري آنيشنكوفا محور "المدن الضائعة والعوالم المختفية: تشكيلات الهوية السكانية الحضرية في الأدب العربي في الثمانينيات"، كما نقرأ "المدينة كبورتريه ذاتي" بقلم ويليام ماينار هتشينس.
ويُختَم الكتاب بفصول تناولت علاقة "المدن بالقيم في عصر الاستهلاك"، وهو عنوان بحث لهنادي السمان، وآخر عن بيروت: مدينة استثنائية وموطنٌ للكتابة اليومية، لغنوة حايك. وحول مترو القاهرة وخطوطه، درست تشيب روسيتي "المدينة كنص بصري في (مترو) مجدي الشافعي".
"رحيلٌ شيق، وأيُّ رَحيل" تُهدينا فصول هذا الكتاب. من حاضرةٍ إلى أخرى، تنتقل الأساليب والمناهج، كأننا نسافر، مع كل مقالٍ، عبر العصور والأقاليم وصيغ الكلام. وهذا، رغم ما فيه من البهجة، هو عينه محذور هذا النوع من الكتب: فأبحاثه القيمة قد تكشف ضرَرَ شدة التخصص مع العجز عن التوسع في الموضوع والتطرق إليه بسطحية. فكل المحاور المتناوَلة تستحق تعمقًا أكبر، لا تفي به مساحة مقالٍ. في حين كان قدماء المستشرقين يخصصون لمثل هذه الموضوعات مجلدات بأسرها.
من جهة ثانية، تُغفل هذه الدراسات، إلى حد كبير، ما يُنجز خارج دائرة الأدب ومباحثه، ولا شيء يمنع من الاستفادة منه. كما قد تنقطع عن ذاكرة الاختصاص نفسه. فعلى سبيل الذكر لا الحصر، نستعيد هنا إسهام المؤرخ التونسي هشام جعيط في كتابه المرجعي: "الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية" (1986، الكويت، وهو مترجم عن الفرنسية، وكان في الأصل أطروحة دكتوراه في السوربون منتصف السبعينيات). إذ يصبُّ هذا العمل في صلب موضوع كتاب "المدينة في الأدب العربي"، وإن كان لا يندرج ضمن الدرس الأدبي. فقد تتبع فيه جعيّط مراحلَ ظهور أول مدينة بعد الفتوحات وترصد بناء أحيائها وتخطيط أنهجها، مُصححًا في الأثناء روايات المؤرخين وتأويلات المستشرقين.
ونشير أخيراً إلى أنَّ معضلة دراسات الأدب العربي هي نشاطها في اللغات الأوروبية أكثر من نشاطها باللسان العربي. ولذا يحق التساؤل إن كانت تتوفّر اليوم مساحاتُ تواصل بين الباحثين في الأدب العربي وجمهور قرائهم، كتلك التي توفرها المؤسسات الأكاديمية الغربية من انتظام المؤتمرات ونشر الكتب الفردية والجماعية حتى يتسنى التحاور والتفاعل في مثل مواضيع هذا الكتاب الممتع.