30 أكتوبر 2024
"الكركرية" الجزائرية فرقة صوفية أم مسلكية إلهائية؟
يناسب العنوان أعلاه على وزن العناوين القديمة بالسجع الحالة التي عليها الجزائر في هذا الصّيف، حيث لم تكد تخرج من أزمة التّغيير الحكومي المفاجئ، حتى غرقت في ضبابيةٍ صوفيةٍ، كان أبطالها أفراد ابتكروا لباسا عجيبا لحركات بهلوانية وطقوس غريبة تترجم، باللهجة الجزائرية، بمعناها الجذب الصّعب للمشكلات بدون هدفٍ يرتجى الوصول إليه، عملية إلهاء كبيرة عن أمّهات الإشكالات، السياسية منها والاقتصادية.
يمثل الصّيف، في الجزائر، زمنا سياسيا بامتياز لإرسال "فقاعات" تغيير بين مختلف "أجنحة الحكم" على اعتبار أن الخيارات المتاحة والممكنة لا يمكن أن يتم الانتصار لواحدةٍ منها إلا بمقدار التأثير/ الأثر الذي تحدثه أو تتركه في السّاحة السياسية للبلاد. من هذا المنطلق، جاء صيف هذا العام ساخنا جدا من حيث عدد تلك الفقاعات التي تعادل، في كثيرٍ منها، عدد الإشكالات التي تطرحها تلك الأجنحة للتفكير، وتجد لها، في الإعلام التابع لها، منابر للتعبير عنها. والإشكالات هي: الانتخابات الرئاسية للعام 2019 (أو المبكّرة، وفق التطورات السياسية في البلاد)، الاقتصاد في ظل استمرار انهيار أسعار النفط ومعها احتياطي الصرف للنقد الأجنبي، التحضير لاجتماع الثلاثية بين النقابة، أرباب العمل و الحكومة (المؤجّل انعقاده إلى أكتوبر/ تشرين الأول المقبل)، إعداد ميزانية 2018، إضافة إلى إشكالات استراتيجية على الجميع الاضطلاع بإيجاد حلول لها، في القريب العاجل، وفي مقدمتها ما يجري في الجوار الجغرافي للجزائر (ليبيا خصوصا) وفي جنوب الصحراء، في المنطقة الساحلية -الصحراوية.
انطلقت قضية "الكركية" من صور وتصريحات انتشرت في "فيسبوك"، تنبئ ببيعة عديد
المريدين شيخ طريقة صوفية مقرها الرئيس في المغرب، حيث تقوم هذه الفرقة، داخل مسجد، برقصات وتذكير بذات الله في حلقاتٍ تشبه التي يعرفها الجزائريون من خلال فرق صوفية معروفة، هي "التّيجانية"، "الطريقة الشاذلية"، "العلوية"، إلخ... ولولا أنّ بعضهم أراد لهذه البوستات أن تنتشر لما كان لهذه الطريقة كل هذا البروز على السّاحة الجزائرية، ولما أثيرت قضايا متعلّقة بالهوية، الوحدة الوطنية، الأمن الوطني والمرجعية الدينية عموما.
على العموم، يمكن الحديث، بكل بساطة، في قضية هذه "الطريقة الكركرية" عن أناسٍ أرادوا إيجاد فارق جديد في ممارسة العشق الصوفي، ولو بالاعتماد على اللّباس، وعلى الخروج في استعراضٍ شبّهه بعضهم بالمسيرة، والتي، للعلم، هي ممارسة سياسية مقيّدة جدّا في إطار ما سبق الإشارة إليه من أوضاع سياسية حرجة وحسّاسة تعيشها البلاد الآن.
بالعودة إلى مسألة الزمن السياسي الذي يرجّح "الطرح الإلهائي" للقضية، فإن ثمّة تزامنا يكاد يرقى إلى درجة الافتعال، على الأقل من وجهة النظر الإعلامية للقضية، وهذا التزامن هو بين قضيتي بروز الطريقة على وسائل الاتصال الاجتماعي والتغيير الحكومي الذي أثار إشكالات عدّة، ومنها عودة الحديث حول المادة 102 من الدّستور، والتي تشير إلى حالة الشغور في الرئاسة لسببٍ ما، ومنهجية ملء ذلك الشغور، إضافة إلى إثارة الإعلاميين والمحلّلين لأسباب إقالة رئيس الحكومة السّابق، عبد المجيد تبّون، والمتّصلة، أساسا، بتصريحاته، ثم إجراءاته الخاصة بإحداث القطيعة بين عالمي المال والسياسة، وتعرّضه بالانتقاد ثم بالاعتذارات، عن المشاريع المتأخرة، لأبرز وجوه عالم المال في الجزائر، في حقّ شخص علي الحدّاد.
هناك ناحية ثانية، ترجّح الافتعال بقصد الإلهاء، وتتعلق بانتشار تحليلات حاولت التأصيل لمنهجية الحكم في الجزائر، لعلّ أرصنها التحليل الذي قدمه الأكاديمي الجزائري في جامعة "ليون" الفرنسية، هواري عدّي. قبل الخوض في أبرز النقاط فيه، تجب الإشارة إلى أن خطورة تلك التحليلات ومقدار حاجتها لإستراتيجية إلهاء، تتمثل في أنها تلج ميدانا يبقى، بالنسبة للجزائريين، عالم طلاسم، لأنه يبحث في سؤال مهم: من يحكم الجزائر؟ السؤال الأكثر إلحاحا والأكثر غموضا منذ استقلال البلاد في 1962.
يمكن إجمال ما أشار إليه هواري عدّي في ثلاثية حلّ بها عقد طلاسم "الحكم" في الجزائر وهي: أولا، رجال الأعمال لا يملكون نفوذا، بل قدرة بارعة على استخدام هوامش تحرّك بين اختلافاتٍ رصدوا معطيات عنها بين مختلف مراكز اتّخاذ القرار داخل الدولة. ثانيا، الخطأ الذي وقع فيه تبّون هو عدم امتلاكه ثقافة رجل الدولة، كونه اتّبع مسار موظف سام. وكانت قراراته، النابعة من تعليمات فوقية، مصدر قلق لبعض تلك المراكز، وكان الحل التوفيقي هو التخلص منه بإقالته وتسمية رجل الدولة، أحمد أويحيى، رئيسا جديدا لحكومةٍ بخريطة طريق واضحة المعالم، بمضمونين سياسي (انتخابات محلية وأخرى رئاسية بين عامي 2017 و2019) واقتصادي (إدارة احتياطي النقد وإخراج قانون للمالية بترتيبات تتضمن الحفاظ على التوازنات التي حفظت للجزائر استقرارها في السنوات الخمس الأخيرة). ثالثا، مراكز اتخاذ القرار اتّفقت، في النهاية، على منح الرئاسة مقاليد الإدارة والتنظيم للسّاحة السياسية، وفق ما تنّص عليه مواد الدستور، مع تضمين ذلك القرار استمرار الحديث عن غموض الحالة السياسية، وخصوصا الجهة التي تتخذ القرار في الجزائر: الرئاسة أم الجيش؟ حقيقة التوازنات التي على الجميع الانتباه إليها ومراعاتها في ما سيأتي من مواعيد سياسية، وخصوصا الموعد الرّئاسي لعام 2019.
يتبيّن، من تلك النّقاط، مقدار التخبّط الذي وقع فيه الرّأي العام المحلي والدولي في فهم منطق القرارات التي اتّخذت. وبالنتيجة، مقدار القلق من انتشار مثل هذه التّحليلات الرّصينة، والتي احتاجت معها السّلطات في الجزائر إلى "مراوغة إلهائية"، هيّأتها إطلالات "الكركرية" برقصاتها وبلباسها وببيعة أعضائها شيخهم الموجود في صومعته الصوفية في المغرب، ومن خلال "فيسبوك"، تحقيقا للانتشار السريع وإثارة الجدل في المجتمع.
يستمر التّرجيح أن بروز "الكركرية الصوفية" إعلاميا هي "حركة إلهائية"، بذكر مجمل
التّحديات التي على أويحيى رفعها، وهي، للتذكير، نفسها خريطة الطريق السياسية والاقتصادية، المرسومة، من قبل لـسلفه عبد المجيد تبون، وتتضمّن تحديات حلّ معضلة استمرار ارتباط الاقتصاد الجزائري بالريع النفطي، من خلال التفكير في استراتيجية اقتصادية جديدة، إضافة إلى تحديات إحداث التوازن بين القرارات الاقتصادية الصعبة اجتماعيا، وسياسة السلام الاجتماعي التي حفظت الاستقرار للجزائر، وهو التوازن الموصوف بالمستحيل لغياب المال الذي كانت أسعار المحروقات المرتفعة توفّره، في السنوات الماضية.
تحتاج هذه التحديات الحيوية إلى عمل "إلهائي" كبير، ذلك أن الحلّ لتجاوزها يستمر التفكير في إيجاده في أوساط أصحاب القرار، وهو ما يرشح بروز "كركريات" أخرى، وخصوصا أن الإعلام التعدّدي ومنصات وسائل الاتصال الاجتماعي توفّر تلك الإمكانية.. في انتظار تغيّر ما في منحنى أسعار النفط للعودة، مرة أخرى، نحو تبني سياسات "شراء السلم الاجتماعي".. وهكذا.. .
يبيّن التعاطي مع البروز المفاجئ للفرقة الكركرية أنه طوق نجاة لسياسات مرحلية تعمل وفق اللحظة، وتحتاج لإدارة الزمن السياسي إلى "إلهاء" الجماهير العريضة، ويستدعي استمرار الأوضاع، في السنوات المقبلة، الحاجة للقول إن الإلهاء الإعلامي سيكون محور الاهتمام للابتعاد عن الخوض في الإشكالات الحقيقية، السياسية والاقتصادية. والمفارقة أن هذا الإلهاء هو، حاليا، ديدن جميع الأنظمة في المغرب العربي: قضية المساواة في الميراث بين المرأة والرجل في تونس، قضية الاغتصاب الجماعي لفتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة في الدار البيضاء المغربيـة، وهما قضيتان متزامنتان مع قرب الانتخابات المحلية والحالة الاقتصادية المنهارة في تونس، واستمرار الحراك في الرّيف من دون أفق للحل، في المغرب.
يمثل الصّيف، في الجزائر، زمنا سياسيا بامتياز لإرسال "فقاعات" تغيير بين مختلف "أجنحة الحكم" على اعتبار أن الخيارات المتاحة والممكنة لا يمكن أن يتم الانتصار لواحدةٍ منها إلا بمقدار التأثير/ الأثر الذي تحدثه أو تتركه في السّاحة السياسية للبلاد. من هذا المنطلق، جاء صيف هذا العام ساخنا جدا من حيث عدد تلك الفقاعات التي تعادل، في كثيرٍ منها، عدد الإشكالات التي تطرحها تلك الأجنحة للتفكير، وتجد لها، في الإعلام التابع لها، منابر للتعبير عنها. والإشكالات هي: الانتخابات الرئاسية للعام 2019 (أو المبكّرة، وفق التطورات السياسية في البلاد)، الاقتصاد في ظل استمرار انهيار أسعار النفط ومعها احتياطي الصرف للنقد الأجنبي، التحضير لاجتماع الثلاثية بين النقابة، أرباب العمل و الحكومة (المؤجّل انعقاده إلى أكتوبر/ تشرين الأول المقبل)، إعداد ميزانية 2018، إضافة إلى إشكالات استراتيجية على الجميع الاضطلاع بإيجاد حلول لها، في القريب العاجل، وفي مقدمتها ما يجري في الجوار الجغرافي للجزائر (ليبيا خصوصا) وفي جنوب الصحراء، في المنطقة الساحلية -الصحراوية.
انطلقت قضية "الكركية" من صور وتصريحات انتشرت في "فيسبوك"، تنبئ ببيعة عديد
على العموم، يمكن الحديث، بكل بساطة، في قضية هذه "الطريقة الكركرية" عن أناسٍ أرادوا إيجاد فارق جديد في ممارسة العشق الصوفي، ولو بالاعتماد على اللّباس، وعلى الخروج في استعراضٍ شبّهه بعضهم بالمسيرة، والتي، للعلم، هي ممارسة سياسية مقيّدة جدّا في إطار ما سبق الإشارة إليه من أوضاع سياسية حرجة وحسّاسة تعيشها البلاد الآن.
بالعودة إلى مسألة الزمن السياسي الذي يرجّح "الطرح الإلهائي" للقضية، فإن ثمّة تزامنا يكاد يرقى إلى درجة الافتعال، على الأقل من وجهة النظر الإعلامية للقضية، وهذا التزامن هو بين قضيتي بروز الطريقة على وسائل الاتصال الاجتماعي والتغيير الحكومي الذي أثار إشكالات عدّة، ومنها عودة الحديث حول المادة 102 من الدّستور، والتي تشير إلى حالة الشغور في الرئاسة لسببٍ ما، ومنهجية ملء ذلك الشغور، إضافة إلى إثارة الإعلاميين والمحلّلين لأسباب إقالة رئيس الحكومة السّابق، عبد المجيد تبّون، والمتّصلة، أساسا، بتصريحاته، ثم إجراءاته الخاصة بإحداث القطيعة بين عالمي المال والسياسة، وتعرّضه بالانتقاد ثم بالاعتذارات، عن المشاريع المتأخرة، لأبرز وجوه عالم المال في الجزائر، في حقّ شخص علي الحدّاد.
هناك ناحية ثانية، ترجّح الافتعال بقصد الإلهاء، وتتعلق بانتشار تحليلات حاولت التأصيل لمنهجية الحكم في الجزائر، لعلّ أرصنها التحليل الذي قدمه الأكاديمي الجزائري في جامعة "ليون" الفرنسية، هواري عدّي. قبل الخوض في أبرز النقاط فيه، تجب الإشارة إلى أن خطورة تلك التحليلات ومقدار حاجتها لإستراتيجية إلهاء، تتمثل في أنها تلج ميدانا يبقى، بالنسبة للجزائريين، عالم طلاسم، لأنه يبحث في سؤال مهم: من يحكم الجزائر؟ السؤال الأكثر إلحاحا والأكثر غموضا منذ استقلال البلاد في 1962.
يمكن إجمال ما أشار إليه هواري عدّي في ثلاثية حلّ بها عقد طلاسم "الحكم" في الجزائر وهي: أولا، رجال الأعمال لا يملكون نفوذا، بل قدرة بارعة على استخدام هوامش تحرّك بين اختلافاتٍ رصدوا معطيات عنها بين مختلف مراكز اتّخاذ القرار داخل الدولة. ثانيا، الخطأ الذي وقع فيه تبّون هو عدم امتلاكه ثقافة رجل الدولة، كونه اتّبع مسار موظف سام. وكانت قراراته، النابعة من تعليمات فوقية، مصدر قلق لبعض تلك المراكز، وكان الحل التوفيقي هو التخلص منه بإقالته وتسمية رجل الدولة، أحمد أويحيى، رئيسا جديدا لحكومةٍ بخريطة طريق واضحة المعالم، بمضمونين سياسي (انتخابات محلية وأخرى رئاسية بين عامي 2017 و2019) واقتصادي (إدارة احتياطي النقد وإخراج قانون للمالية بترتيبات تتضمن الحفاظ على التوازنات التي حفظت للجزائر استقرارها في السنوات الخمس الأخيرة). ثالثا، مراكز اتخاذ القرار اتّفقت، في النهاية، على منح الرئاسة مقاليد الإدارة والتنظيم للسّاحة السياسية، وفق ما تنّص عليه مواد الدستور، مع تضمين ذلك القرار استمرار الحديث عن غموض الحالة السياسية، وخصوصا الجهة التي تتخذ القرار في الجزائر: الرئاسة أم الجيش؟ حقيقة التوازنات التي على الجميع الانتباه إليها ومراعاتها في ما سيأتي من مواعيد سياسية، وخصوصا الموعد الرّئاسي لعام 2019.
يتبيّن، من تلك النّقاط، مقدار التخبّط الذي وقع فيه الرّأي العام المحلي والدولي في فهم منطق القرارات التي اتّخذت. وبالنتيجة، مقدار القلق من انتشار مثل هذه التّحليلات الرّصينة، والتي احتاجت معها السّلطات في الجزائر إلى "مراوغة إلهائية"، هيّأتها إطلالات "الكركرية" برقصاتها وبلباسها وببيعة أعضائها شيخهم الموجود في صومعته الصوفية في المغرب، ومن خلال "فيسبوك"، تحقيقا للانتشار السريع وإثارة الجدل في المجتمع.
يستمر التّرجيح أن بروز "الكركرية الصوفية" إعلاميا هي "حركة إلهائية"، بذكر مجمل
تحتاج هذه التحديات الحيوية إلى عمل "إلهائي" كبير، ذلك أن الحلّ لتجاوزها يستمر التفكير في إيجاده في أوساط أصحاب القرار، وهو ما يرشح بروز "كركريات" أخرى، وخصوصا أن الإعلام التعدّدي ومنصات وسائل الاتصال الاجتماعي توفّر تلك الإمكانية.. في انتظار تغيّر ما في منحنى أسعار النفط للعودة، مرة أخرى، نحو تبني سياسات "شراء السلم الاجتماعي".. وهكذا.. .
يبيّن التعاطي مع البروز المفاجئ للفرقة الكركرية أنه طوق نجاة لسياسات مرحلية تعمل وفق اللحظة، وتحتاج لإدارة الزمن السياسي إلى "إلهاء" الجماهير العريضة، ويستدعي استمرار الأوضاع، في السنوات المقبلة، الحاجة للقول إن الإلهاء الإعلامي سيكون محور الاهتمام للابتعاد عن الخوض في الإشكالات الحقيقية، السياسية والاقتصادية. والمفارقة أن هذا الإلهاء هو، حاليا، ديدن جميع الأنظمة في المغرب العربي: قضية المساواة في الميراث بين المرأة والرجل في تونس، قضية الاغتصاب الجماعي لفتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة في الدار البيضاء المغربيـة، وهما قضيتان متزامنتان مع قرب الانتخابات المحلية والحالة الاقتصادية المنهارة في تونس، واستمرار الحراك في الرّيف من دون أفق للحل، في المغرب.